الرياض - ياسر الجرجورة في السبت 7 يونيو 2025 07:28 مساءً - في مشهد متكرر على وسائل التواصل الاجتماعي اللبنانية، ظهر مؤخرًا فيديو قصير بعنوان “العرّاب” نشرته صفحة فيسبوك تُعرف باسم “وينيه الدولة”. الصفحة التي تبني محتواها على جذب الانتباه والإثارة، قدمت الفيديو كتحقيق استقصائي حول المواطن اللبناني محمد عادل المقداد، متضمنًا اتهامات خطيرة تتعلق بإدارة شبكات قمار إلكترونية وعلاقات مزعومة مع أطراف أجنبية.
من هو محمد عادل المقداد؟
محمد عادل المقداد ليس شخصية مغمورة في الفضاء الرقمي اللبناني. على العكس، هو أحد أبرز رواد قطاع الألعاب الإلكترونية والربح عبر الإنترنت في لبنان. منذ سنوات، بنى لنفسه حضوراً معروفاً في هذا المجال، عبر مشاريع رقمية وخدمات تستهدف فئة الشباب الباحثين عن فرص دخل بديلة في اقتصاد متقلب.
ورغم الشعبية التي يحظى بها بين متابعيه، لا يزال هذا القطاع يثير الجدل في لبنان، حيث يفتقر إلى إطار قانوني وتنظيمي واضح. هذا الفراغ التشريعي يفتح الباب أمام تأويلات متضاربة: بين من يرى فيه فرصة اقتصادية رقمية واعدة، ومن يعتبره بيئة محفوفة بالمخاطر القانونية والأخلاقية.
مع ذلك، يظل المقداد شخصية مدنية معروفة تمارس نشاطها في العلن، دون سجل قضائي معروف، من هنا تبرز خطورة محاولة تصويره كـ”مجرم رقمي” في فيديوهات لا تستند إلى أحكام قضائية، بل إلى مقاطع منتقاة وخطاب شعبوي.
التحقيق في أي نشاط اقتصادي جديد حق مشروع. لكن اغتيال السمعة دون أدلة قاطعة ليس كذلك.
غياب المعايير الصحفية

عند مراجعة مضمون الفيديو الذي نُشر على صفحة “وينيه الدولة”، سرعان ما يتبيّن افتقاره للمعايير الأساسية التي يفترض أن تميّز أي تحقيق مهني، المشاهد المنتقاة عشوائيًا، والربط بين أحداث لا صلة مباشرة لها بالموضوع، وغياب التحليل الرقمي المحايد — كل ذلك يجعل من الشريط أقرب إلى مادة دعائية منه إلى تحقيق جاد.
الاتهام الأخطر… دون أي أرضية
أخطر ما ورد في الفيديو كان الإشارة إلى “التعاون مع جهات إسرائيلية”، في بلد كلبنان، لمثل هذا الادعاء تبعات قانونية وأمنية جسيمة، ومع ذلك، لم يُدعّم الاتهام بأي وثيقة رسمية أو مصدر مستقل أو حتى تحليل فني بسيط يمنح المتابع قدرًا من الثقة.
هكذا يتم طرح أخطر التهم، وكأنها عناوين عابرة في فيديو مصمَّم لإثارة الرأي العام، بعيدًا عن أي التزام بأصول التحقيق الصحفي.
محاولة مكشوفة.. والجمهور يُفشل أجندتها
المفارقة أن جمهور وسائل التواصل أظهر نضجًا أكبر مما يبدو أن القائمين على الحملة توقعوا. فالتعليقات غلب عليها الطابع النقدي، رافضة ما اعتُبر محاولة مكشوفة لتصفية حسابات شخصية أو سياسية، ملفوفة في عباءة الصحافة الاستقصائية.

الصورة المرفقة التي رافقت النقاشات كانت بدورها دليلاً على أن المتلقي اللبناني لم يعد يستهلك هذه المواد بسطحية، بل بات يطرح الأسئلة حول نواياها وأهدافها.
أزمة عميقة في الصحافة الرقمية اللبنانية
هذه الحادثة ليست معزولة، بل تعكس أزمة أعمق يعاني منها الفضاء الإعلامي اللبناني، حيث بات من السهل جدًا على صفحات لا تلتزم بأبسط قواعد المهنية أن تنشر محتوى يدمّر سمعة الأفراد دون حسيب أو رقيب.
في ظل الانهيار المؤسساتي والإعلامي الحاصل، أضحت بعض المنصات الرقمية أقرب إلى ساحات لتصفية الحسابات وممارسة التشهير، بدل أن تكون منصات للنقاش العام المسؤول.
سؤال ضروري في زمن الإعلام الفوضوي
ما جرى ليس مجرد مشكلة لبنانية، إنه نموذج لتحوّل الإعلام الرقمي إلى مساحة غير منضبطة، يمكن فيها لأي جهة أن تركب رواية كاملة، وتقدّمها للجمهور بلهجة “التحقيق المهني” — دون أن تكون ملزمة بأي معايير للتحقق أو للمحاسبة.
يبقى السؤال الجوهري الذي على مجتمعاتنا العربية كلها أن تطرحه: كيف نحمي المجال العام من التلاعب المتزايد بالمعلومة؟ من يملك اليوم حق تقديم “الحقيقة”، ومن يملك القدرة على تزويرها بلا ثمن؟
في النهاية، السؤال الذي يفرض نفسه ليس فقط: “لماذا محمد عادل المقداد؟”
بل: من التالي؟