كتب ناصر المحيسن - الكويت في الثلاثاء 28 أكتوبر 2025 10:10 مساءً - بينما تحتفل جمهورية تركيا بفخر بذكرى تأسيسها الثانية بعد المئة في 29 أكتوبر 2025، نتوقف للتأمل في قرنٍ من الصمود والانخراط الفاعل في الساحة العالمية. ولا تُعدّ هذه المحطة التاريخية مجرد احتفاءٍ بمسيرة وطنية مجيدة – من حرب الاستقلال البطولية إلى تأسيس دولة حديثة ذات سيادة، بل هي أيضًا مناسبة لتقدير الشراكات الراسخة التي أسهمت في رسم دور تركيا في المجتمع الدولي.
وتأسست الجمهورية التركية عام 1923 نتيجة نضالٍ جماعي من أجل الحرية والكرامة الوطنية. لقد أثبت أجدادنا، الذين لم يرضخوا يومًا للظلم، للعالم أجمع قوة شعبٍ توحّد تحت هدفٍ واحد. واليوم، تكرّم تركيا إرثهم العريق من خلال بناء وطنٍ ديناميكي، شامل، ومكرّس لخدمة السلام والتقدم.


بإلهامٍ من المبادئ التي أرسى دعائمها الغازي مصطفى كمال أتاتورك – «سلام في الداخل، سلام في العالم»- تطورت تركيا لتصبح فاعلاً مؤثراً على المستويين الإقليمي والدولي. وقد توازت إنجازاتنا في مجالات التعليم والتكنولوجيا والتنمية الاقتصادية مع التزامنا الراسخ بالقيم الإنسانية والدبلوماسية القائمة على المبادئ.
وعليه، فإن السياسة الخارجية لتركيا ليست مجرد أداةٍ للدفاع الوطني أو الدبلوماسية، بل هي انعكاسٌ لقيمنا وطموحاتنا والتزامنا بالمساهمة في بناء نظامٍ دولي أكثر استقرارًا وعدلاً وتعاوناً. وفي ظل مشهد عالمي يزداد تعقيداً وتقلباً، تسترشد السياسة الخارجية لتركيا بمبدأين متلازمين: حماية المصالح الوطنية، وتعزيز مقوّمات السلام والتنمية المستدامة، سواء في محيطها الإقليمي المباشر أو ضمن النظام الدولي الأوسع.
وتحت قيادة فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان، تضع تركيا اليوم أسس «قرن تركيا»، وهي رؤية وطنية ترتكز على الاستثمار في مجالات التعليم والعلوم والثقافة والدبلوماسية. وفي هذا الإطار، نسعى إلى تعزيز السلام والأمن الإقليميين، وتوسيع الأسس المؤسسية لعلاقاتنا الدولية، ودعم النمو الاقتصادي الشامل والازدهار المشترك.
وفي إطار «قرن تركيا»، كتبنا قصة نجاح في صناعة الدفاع. فمن خلال المعدات والبرمجيات العسكرية المنتجة محليًا، حققنا قدرًا كبيرًا من الاكتفاء الذاتي، حيث تشكل الآن المعدات العسكرية التركية أكثر من 80 في المئة من مخزوننا. كما أصبحنا مصدراً موثوقاً للمعدات الدفاعية لشركائنا على الصعيد العالمي.
واليوم، تكتب صناعة الدفاع التركية ملحمةً بفضل تنوع منتجاتها الواسع، حيث تضم أكثر من 1380 مشروعاً، وتحقق حجم مبيعات يتجاوز 20 مليار دولار. وقد وصل عدد الدول التي نصدر إليها منتجاتنا الدفاعية إلى 185 دولة. كما بلغ تنوع المنتجات المصدّرة، بما في ذلك الطائرات من دون طيار والمركبات البرية والمنصات البحرية، نحو 230 منتجاً، وبدأت منتجات الصناعة الدفاعية التركية تتبوأ مركز الصدارة على الساحة العالمية.
وتحمل ذكرى يوم الجمهورية لهذا العام دلالاتٍ خاصة لعلاقات تركيا والكويت. فقد شكّلت الزيارة التاريخية لصاحب السمو الأمير الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح إلى تركيا في مايو 2024 علامة فارقة. إذ كانت هذه أول زيارة رسمية له خارج العالم العربي، مما أعطى إشارات واضحة عن اعتراف الكويت بتركيا كشريك استراتيجي ومهّد الطريق لعهد جديد من التعاون بين البلدين.
وعززت زيارة فخامة الرئيس أردوغان المتبادلة في 21 أكتوبر 2025 هذا الزخم، وفتحت فصلاً جديداً في مسيرة التعاون الثنائي. ففي اجتماعات رفيعة المستوى مع صاحب السمو الأمير وقيادات كويتية، تم توقيع اتفاقيات تاريخية في مجالات الطاقة والبحرية والنقل والاستثمار. ومن هنا، تم تمهيد الطريق لتعميق التعاون بين البلدين في مختلف القطاعات والمساهمة بشكل فاعل في تحقيق أهداف التنمية لرؤية الكويت 2035.
وتنظر تركيا إلى الكويت ليس فقط كشريك إستراتيجي، بل كدولة تتميز بحكمتها الدبلوماسية وقيادتها الإنسانية. ويقوم تعاوننا على الثقة المتبادلة والازدهار المشترك ورؤية مشتركة لتحقيق الاستقرار في عالم سريع التغير.
واليوم، تتبوأ تركيا موقع الدولة الرائدة عالميًا في استقبال اللاجئين وتسهم بشكل رئيسي في الجهود الإنسانية الدولية. وتتشكّل سياستنا الخارجية من إيمان راسخ بأن الكرامة والعدالة والأمن هي حقوقٌ عالمية. ويستمر هذا الإرث الإنساني، المتأصل بعمق في هوية تركيا الوطنية، في توجيه تصرفاتنا سواء في أوقات الأزمات أو الفرص على حد سواء.
ومنذ بداية الهجمات الإسرائيلية على غزة، بادرت تركيا باتخاذ خطوات لضمان وقف إطلاق النار، ومنع انتشار الصراع جغرافياً، ومساءلة إسرائيل أمام القانون الدولي عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها في غزة، وضمان إيصال المساعدات الإنسانية دون انقطاع، ومنع تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. وفي هذا السياق، نتقدم بخالص الشكر لشعب وحكومة الكويت على دعمهم الثابت لغزة، وهو رمز دائم للرحمة والتضامن الإقليمي.
وفي ذكرى يوم الجمهورية، نستذكر بكل إجلال مؤسس جمهوريتنا مصطفى كمال أتاتورك، ورفاقه في السلاح، وجميع شهدائنا وقدامى جنودنا الذين جعلوا من هذه الأرض وطنًا لنا. ولا تزال تضحياتهم مصدر إلهام لجهودنا في بناء تركيا قوية وعادلة ومتطلعة نحو المستقبل.
نسأل الله أن يديم شراكة تركيا والكويت في الازدهار، والمحافظَةً على إرثنا، واحتضان مستقبلنا، وإلهاما للأجيال القادمة.
* سفيرة جمهورية تركيا لدى الكويت
