كتب ناصر المحيسن - الكويت في السبت 1 يونيو 2024 11:07 مساءً - في اليوم الذي أكتب فيه هذه الدراسة، كدت أتعرّض لحادثين جسيمين من قبل مركبات كانت تقاد بسرعات جنونية وبمقدار كبير من الرعونة. وهذه السلوكيات أصبحت معتادة على طرقنا في الكويت، فضلاً عما نعانيه من انشغال عدد كبير من سائقي المركبات بهواتفهم النقالة حتى عند نقاط تعارض مسارات المركبات مثل الدوّار.
اكتب هنا لكوني أحد أهل الاختصاص في هندسة المرور وبالأخص سلوكيات السائقين، وتوقيت المقال مرتبط بما يدور من حديث عن إقرار قانون جديد للمرور وقرارات أخرى تتعلق بالعقوبات الفورية ضد المستهترين.
بداية أود التأكيد بأني مؤيد وبشدة لتعديل قانون المرور، وأن مثل هذا التعديل كان يفترض أن يتم قبل مدة طويلة، لأن تعديل هذا القانون بما ينطوي عليه من تعديل سلوكيات السائقين يترتب عليه حفظ الأرواح ومنع الإصابات الجسيمة والخسائر المادية الفادحة. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن مثل هذا التعديل غالبا لن يكون متاحاً بشكل متكرر وأن الفرصة المتاحة حالياً قد لا تتاح مستقبلاً، فيتوجب على الجهات المختصة التأكد من أن هذا التعديل سيحقق النتيجة المرجوة وهي القضاء على السلوكيات الخطرة التي تضع أرواح مستخدمي الطريق في خطر متكرّر.
استطاعت دول مختلفة خلال العشرين سنة الماضية من رفع مستوى السلامة المرورية بشكل ملحوظ، وهو ما تم الاستدلال عليه من خلال الانخفاض الملحوظ في نسبة الوفيات والإصابات الناتجة عن حوادث الطرق. وجاء ذلك من خلال النظرة الشمولية للسلامة المرورية التي أصبحت تعرف بالمنظومة الآمنة Safe System. والمبادئ الأساسية التي بنيت عليها هذه المنظومة هي: أنه لا يمكن وضع قيمة مادية لما يترتب على الحوادث المرورية من وفيات وإصابات، وأنه من غير المقبول أن تكون ضريبة تلبية حاجة أساسية للبشر في عالمنا الحالي وهي حاجة التنقل هي دفع شخص ما لحياته أو لصحته. والمبدأ الأساسي الثالث الذي ارتكزت عليه هذه المنظومة هي أن السلامة المرورية هي مسؤولية مشتركة بين مختلف الجهات المختصة وكذلك يتحمل مستخدمو الطرق جزءاً من هذه المسؤولية.
قانون المرور المقرر صدوره ينظر لجانب واحد من جوانب المنظومة الآمنة، إلا أن هذا الجانب هو الأهم والمتسبب الأكبر لحوادث المرور وهو سلوكيات السائقين. هذه السلوكيات التي أصبحت مقلقة بشكل كبير لكل من يريد استخدام شبكة الطريق بشكل قانوني ونظامي، ومقلقة أكثر لأولياء الأمور الذين يشعرون بالخوف في كل مرة يخرج فيها أحد أبنائهم أو بناتهم، خصوصاً حديثي العهد بقيادة المركبة. وهنا جاءت الفرصة لتعديل وضع خاطئ بإقرار قانون مرور جديد يقضي على السلوكيات الخطرة ويرفع مستوى السلامة المرورية والحركة النظامية على شبكة الطرق. إلا أنه من المهم هنا إدراك أن وضع قانون مرور جديد ذي فاعلية في تحقيق الأهداف المرجوة منه يتطلب استشارة أصحاب مختلف التخصصات المرتبطة بهندسة المرور والسلامة المرورية وليس مقتصراً فقط على ذوي الاختصاصات القانونية أو أصحاب الخبرة العملية في تطبيق القوانين. وأن هناك مجالاً بحثياً يتم فيه عمل دراسات وأبحاث لتحديد الآلية الأفضل لتغيير السلوكيات بشكل عام وسلوكيات السائقين بشكل خاص، وهذا المجال هو نظريات الردع deterrence theories.
حتمية تطبيق العقوبة
مما اتفق عليه في الأبحاث التي تنشر في هذا المجال أن ردع السلوكيات الخاطئة ينتج بالدرجة الأولى وبالمساهمة الأكبر عن حتمية تطبيق العقوبة، وليس عن غلظة العقوبة بحد ذاتها. فعلى سبيل المثال، إذا كانت عقوبة تجاوز حدود السرعة بمقدار معين هي غرامة مادية محددة (30 ديناراً مثلا) ولكنها حتمية، بمعنى أن أي قائد مركبة سيكون مدركاً بأنه في كل مرة سيتجاوز حدود السرعة سيدفع هذه المخالفة، فإن هذا سيكون رادعاً له أو لها للامتناع عن مثل هذه السلوكية، لأن هذه السلوكية قد تكلف مرتكبها في كل رحلة يتم إتمامها ما يتجاوز عن المئة دينار. أما تغليظ العقوبة دون رفع احتمالية ضبط السلوك المخالف، وهو ما يعني انخفاض احتمالية ضبط المخالفة وبالتالي عدم حتمية العقوبة، فغالباً سيكون تأثيره قصير المدى مقتصراً على الفترة القصيرة التي تلي الإعلان عن تطبيق العقوبات المغلظة. وبعدها ومع تمكن من اعتادوا على تكرار المخالفات من معرفة كيفية تجنبهم لأدوات مراقبة السلوكيات، سيعود هؤلاء غالباً للسلوكيات الخطرة التي اعتادوا عليها. فالمطلوب أن يتم التركيز على رفع حتمية تطبيق العقوبة من خلال رفع احتمالية ضبط السلوكيات المخالفة، وهو ما يحتم أن نفكر بآليات جديدة لمراقبة سلوكيات السائقين تمكن من رفع نسبة ضبط السلوكيات المخالفة بشكل كبير جداً. بالإضافة لضرورة حتمية العقوبة، هناك أيضاً ضرورة لسرعة تطبيق العقوبة، حتى وإن لم تكن مغلظة، وذلك خلال فترة زمنية بسيطة من ارتكاب المخالفة دون الانتظار إلى أن يحتاج مرتكب المخالفة للقيام بمعاملة مرورية حتى يقوم أو تقوم بدفع الغرامة.
استمرارية الرقابة على السلوكيات
وهنا يأتي التساؤل: كيف يمكن أن نرفع من احتمالية ضبط السلوكيات المخالفة وبالتالي نحقق حتمية العقوبة لمرتكبي هذه السلوكيات؟
يلزم في هذا الصدد الإدراك بأن قيادة المركبة هي عملية مستمرة وتكون ممتدة لمسافات طويلة. وأن مخالفة قوانين المرور وارتكاب سلوكيات خطرة قد تقع في أي وقت من عملية قيادة المركبة وفي أي مكان من مسار الرحلة. وبالتالي فإن الحوادث قد تقع في أي مكان ولا يمكن حصرها في نقاط محددة. وهذا ما يحتم أن تكون عملية الرقابة على السلوكيات متصفة بصفة الاستمرارية والامتداد على كامل مسار الرحلة. وإذا نظرنا لوسائل رقابة سلوكيات السائقين نجدها شبه مقصورة على كاميرات السرعة التي يعرف من يرتاد أي طريق بشكل يومي أماكنها تماما. بل إن العديد من السائقين يعلمون أي الكاميرات يمكنها التصوير وأيها شكلية فقط، وأي كاميرا تصور بأي اتجاه. وهذا ما يسهل على مرتكبي المخالفات بأن يقللوا من سرعاتهم قبل موقع الكاميرا ومن ثم العودة للسرعة المخالفة بعد تجاوزها. ثم ان هذه الكاميرات تراقب فقط سرعة المركبات. وهذه السرعة وإن كانت المسبب الرئيسي للحوادث إلا أنها ليست السلوكية الوحيدة الخطرة التي نتعرض لها على شبكة الطرق. فاستخدام الهاتف النقال أثناء القيادة ثبت زيادة خطورته عن تجاوز حدود السرعة بمراحل، إلا أنه لا توجد آلية حالياً تمكن من معاقبة مستخدمي الهاتف النقال أثناء القيادة باحتمالية معتد بها. فإذاً، من الواضح أن مثل هذه الكاميرات لا تؤدي الغرض المطلوب في تحقيق استمرارية وديمومة الرقابة على سلوكيات السائقين.
من الوسائل الأخرى التي تستخدم لرقابة سرعة المركبات دون غيرها من السلوكيات الخطرة هي كاميرات point-to-point والتي تقوم برقابة السرعة على مقطع ممتد من الطريق وليس عند نقطة محددة منه. وهذه الكاميرات وإن كانت أكثر فاعلية من الكاميرات السابقة إلا أن لها بعض العيوب منها أنها تراقب فقط المركبات التي تمر على الكاميرتين ما يلزم عدم وجود مخرج بين الكاميرتين وبالتالي تكون المسافة التي يتم رقابة السرعة خلالها قصيرة نسبيا. كما أثبتت دراسات سابقة انخفاض فاعلية هذه الكاميرات مع مرور الوقت. من الوسائل التي يمكن تطبيقها والتي أصبح تطبيقها أكثر إمكانية بسبب تطبيقات الذكاء الاصطناعي هي شبكات من الكاميرات المتصلة والتي تغطي كامل شبكة الطرق على غرار كاميرات CCTV والتي يمكنها بالاستعانة ببرمجيات من الذكاء الاصطناعي أن تضبط كل مخالفة يتم ارتكابها وتحديد مرتكب المخالفة.
تطبيق «شلونك» مروري
الآلية التي اقترحتها في الدراسة المنشورة لمراقبة سلوكيات السائقين هي آلية بسيطة وحسب مقدار اطلاعي غير مكلفة، وهي على غرار ما تم استخدامه أثناء التعامل مع وباء COVID-19 عن طريق تطبيق «شلونك». فالفكرة هنا هي استحداث تطبيق يحمّل على الهاتف النقال يمكنه مراقبة سلوكيات السائق طوال فترة قيادته للمركبة، وإرسال معلومات مستمرة عن أي مخالفة يتم ارتكابها لمنظومة تحكم مركزية لتسجيل المخالفة بشكل فوري.
هذا التطبيق يمكنه مراقبة مختلف السلوكيات التي يقوم بها السائق أثناء قيادة المركبة، ومنها وليس حصراً السرعات العالية واستخدام الهاتف أثناء قيادة المركبة. مثل هذه التطبيقات تم استخدامها في دول متعددة مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا من قبل شركات التأمين وذلك لإلزام الشرائح عالية الخطورة بالالتزام بقوانين المرور من خلال مراقبة سلوكياتهم بشكل مستمر. كما تم استخدامها من قبل الشركات التي تمتلك أساطيل من المركبات التي يتم استخدامها من قبل الموظفين للتأكد من قيادة هذه المركبات بشكل آمن. إلا أنه حسب علمي لم يتم استخدام مثل هذه المنظومة في مجال تطبيق القانون من قبل. وليس هناك ما يمنع من أن تكون الكويت هي الرائدة في هذا المجال. والفكرة المهمة هنا أن هذا التطبيق يفترض ألا يكون استخدامه إلزامياً على جميع قائدي المركبات، وإنما سيكون ذلك إلزامياً فقط على من تمت مخالفته أو مخالفتها بعدد أو نوع معين من المخالفات. بمعنى أن الشخص الملتزم بقوانين المرور سيكون مجنباً من الحاجة لاستخدام هذا التطبيق.
والجدير ذكره، أنه في الدراسة التي قمت بنشرها، أجاب أكثر من 75 في المئة ممن قاموا بتعبئة الاستبيانات والذين زاد عددهم عن 1000 مشارك إما بأنهم مؤيدون أو أنهم مؤيدون بشدة لاستخدام مثل هذه الآلية. وكان من المستغرب أن نسبة كبيرة ممن يرتكبون المخالفات المرورية كانوا مؤيدين لاستخدام مثل هذه الآلية. وهذا يقود لاستنتاج منطقي وهو أن من يقوم بتكرار مخالفة قوانين المرور يعلم بخطورة هذه المخالفات إلا أنه لا يستطيع الامتناع عنها لاعتياده عليها أو لأنها تحقق إشباع رغبة في الإثارة. فيكون محتاجاً لتدخل خارجي للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات الخطرة.
الخلاصة أن تعديل قانون المرور هو ضرورة ملحة لا يمكنها الانتظار لفترة طويلة. ولكن هذا التعديل يجب أن يحقق ما نصبو إليه من تغيير فعلي للسلوكيات الخطرة. وفي هذا الصدد، يجب الإدراك أن العامل الأهم في ضبط السلوكيات وديمومة واستمرار هذا الضبط هو حتمية العقوبة المترتبة على السلوكيات المخالفة حتى وإن لم تكن قاسية أو مغلظة، وأن تغليظ العقوبات دون رفع احتمالية ضبط السلوكيات المخالفة بشكل كبير جدا لن يؤتي النتائج المرجوة على المدى الطويل.
* الدكتور/ مهدي كرم شهاب
- استاذ مشارك – قسم تكنولوجيا الهندسة المدنية – كلية الدراسات التكنولوجية - الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب
- دكتوراه في هندسة المرور – جامعة ساوثامبتون – المملكة المتحدة
- ماجستير في هندسة المرور والطرق – جامعة ميزوري – الولايات المتحدة الأميركية
