الدوحة - سيف الحموري - نظّم معهد الدوحة للدراسات العليا، اليوم الثلاثاء 28 أكتوبر 2025، المحاضرة الافتتاحية للعام الأكاديمي 2025–2026 بعنوان: "الحروب التجارية: الماضي والحاضر" قدّمها البروفيسور أندريه ليفتشينكو، أحد أبرز الاقتصاديين الدوليين في العالم، وأستاذ في جامعة ميشيغان. حضر الفعالية عدد من أعضاء الهيئة الأكاديمية والإدارية وطلبة المعهد، في أجواء فكرية تعكس انفتاح المعهد على القضايا الاقتصادية الراهنة.
سلّط البروفيسور ليفشنكو الضوء على التحولات العميقة التي يشهدها النظام التجاري العالمي بعد عقودٍ من الانفتاح والعولمة المتسارعة. وأوضح أن العالم يعيش اليوم على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، بعدما شكّلت العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية عصرًا ذهبيًا للتكامل الاقتصادي والانفتاح التجاري، مضيفًا أن هذه الحقبة من العولمة شهدت توسعًا كبيرًا في التعاون الاقتصادي الدولي، بدءًا من تأسيس الاتحاد الأوروبي ومرورًا بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وصولًا إلى توقيع مئات الاتفاقيات التجارية الثنائية والمتعددة. غير أن الأزمة المالية العالمية في عام 2008 شكّلت أول انتكاسة حقيقية لمسار العولمة، تلتها أحداث مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) والحرب التجارية التي أشعلتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، وأخيرًا الانقطاع الحاد في العلاقات الاقتصادية بين الغرب وروسيا عقب حرب أوكرانيا.
وبيّن المحاضِر أن هذه التطورات مجتمعة وضعت العالم أمام موجة جديدة من "الحمائية الاقتصادية"، وأعادت الرسوم الجمركية إلى صدارة السياسات الاقتصادية بعد أن كانت شبه منعدمة في الدول المتقدمة لعقود طويلة. وأشار إلى أن الولايات المتحدة تفرض اليوم متوسط رسوم جمركية يبلغ 17%، وهو الأعلى منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ما يشكّل قطيعة مع النظام التجاري المنفتح الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية.
وأوضح ليفشنكو في محاضرته أن مفهوم الرسوم الجمركية ليس حديثًا، بل هو من أقدم أدوات السياسة الاقتصادية، إذ عرفته الحضارات القديمة منذ الآشوريين واليونان والرومان، كما برز في التاريخ الإسلامي من خلال الرسوم التي فرضت لتنظيم التجارة العابرة للحدود. وبيّن أن هذه الأنظمة القديمة تعكس إدراكًا مبكرًا لأهمية السيطرة على حركة التجارة كمصدر للإيرادات العامة ووسيلة لتنظيم الأسواق.
وانتقل البروفيسور ليفشنكو بعد ذلك إلى مناقشة المبررات الاقتصادية للرسوم الجمركية، موضحًا أن الدول كانت تلجأ إليها تاريخيًا لتوليد الإيرادات، لا سيما في فترات ضعف البنية الضريبية، حيث مثّلت الرسوم الجمركية نحو 90% من الإيرادات الفيدرالية في الولايات المتحدة حتى منتصف القرن التاسع عشر. كما استعرض ما يُعرف بـــ "حجة الصناعة الناشئة" التي تدعو إلى فرض رسوم مؤقتة لحماية الصناعات المحلية الجديدة حتى تتمكن من المنافسة عالميًا، مشيرًا إلى أن هذه السياسات رغم انتشارها في أمريكا اللاتينية وأفريقيا لم تحقق نجاحًا دائمًا في معظم الحالات.
وشدد ليفشنكو على أن الاعتماد المفرط على الرسوم الجمركية يحمل آثارًا سلبية على رفاه الشعوب والنمو العالمي، لأنها ترفع تكاليف الإنتاج وتضعف روح المنافسة وتؤدي إلى تراجع التبادل التجاري. واعتبر أن النظرية الاقتصادية الحديثة تثبت أن سياسات التجارة الحرة تعود بالنفع العام على المستهلكين والمنتجين في المدى الطويل، رغم ما قد تسببه من تحديات مرحلية لبعض القطاعات.
وأشار إلى أن الحقبة الممتدة من أربعينيات القرن الماضي حتى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين كانت استثناءً في التاريخ الاقتصادي، إذ نجحت مؤسسات مثل "الجات" ثم "منظمة التجارة العالمية" في خلق بيئة من التعاون التجاري خفّضت الحواجز بين الدول، وأسهمت في تحقيق نمو اقتصادي عالمي غير مسبوق. لكن الانعطافة الأخيرة نحو سياسات الحماية تمثل -بحسب ليفشنكو- تهديدًا لهذه المكاسب، إذ تدفع الدول الكبرى إلى سباق من الإجراءات الانتقامية التي قد تكرّس حلقة من الحروب التجارية طويلة الأمد.
وفي ختام المحاضرة، التي أدارها الدكتور أيهب سعد، عميد كلية الاقتصاد والإدارة والسياسات العامة، دعا البروفيسور ليفشنكو إلى العودة لنهج التعاون الدولي والحوار الاقتصادي بين الدول الكبرى، مشددًا على أن التاريخ يبرهن أن الازدهار لا يتحقق إلا عبر الانفتاح، وأن التنافس التجاري ينبغي أن يقوم على الابتكار والإنتاجية لا على فرض الرسوم والعقوبات. وأكد أن العالم اليوم بحاجة إلى إعادة بناء الثقة في النظام التجاري العالمي، وتحديث آليات الحوكمة الاقتصادية بما يتناسب مع التحديات الجديدة التي فرضتها التكنولوجيا والتحولات الجيوسياسية.
وشهدت المحاضرة تفاعلًا واسعًا من الحضور الذين طرحوا أسئلة ثرية ونقاشات معمّقة حول مستقبل التجارة الدولية ودور المؤسسات الاقتصادية في تعزيز التعاون العالمي. وتُعدّ هذه المحاضرة الافتتاحية التاسعة ضمن سلسلة المحاضرات السنوية التي دأب معهد الدوحة للدراسات العليا على تنظيمها كتقليد أكاديمي راسخ، يستضيف من خلاله نخبة من المفكرين والعلماء لطرح قضايا معاصرة في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصاد والإدارة، بما يسهم في إثراء المعرفة وتوسيع آفاق الحوار الأكاديمي.
أخبار متعلقة :