ابوظبي - ياسر ابراهيم - السبت 13 سبتمبر 2025 04:42 مساءً - أعرب الدكتور عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني السابق، عن عميق امتنانه لدولة الإمارات قيادة وشعباً، لاستضافتها آلاف السودانيين الذين شردتهم الحرب، ليجدوا وطناً ثانياً احتضنهم بحفاوة ووفر لهم كل مقومات العيش الكريم، لافتاً إلى أن الإمارات الدولة الوحيدة التي قدمت للسودانيين إقامات «دول الحروب والكوارث»، والتي مكنتهم من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي.
وقال في حوار لـ «حال الخليج»: إن دعم الإمارات لم يقف عند استضافة السودانيين، بل امتد ليشمل تقديم مساعدات إنسانية عاجلة داخل السودان نفسه، فضلاً عن إيصال العون لملايين اللاجئين السودانيين في دول الجوار بما فيها دولة تشاد وجنوب السودان وأوغندا وكينيا وإثيوبيا وحتى في جمهورية مصر العربية، مؤكداً أن الإمارات سند حقيقي للسودانيين في الداخل والخارج.
وقال حمدوك: إن التاريخ علمنا أنه لا توجد حرب تستمر إلى الأبد، الأمر الذي يتطلب منا جميعاً كسودانيين العمل على إيجاد أرضية جامعة للتوافق والحوار السياسي، تسهم في التأسيس لشكل انتقالي لما بعد الحرب، ومن ثم العمل على بناء اقتصاد وإعادة الإعمار... وإلى نص الحوار:
• ما هو تقييمكم للجهود الإنسانية التي بذلتها دول العالم في التخفيف من المعاناة الإنسانية للنازحين السودانيين بداخل وخارج السودان؟
في خضم المأساة الإنسانية التي يعيشها السودان بسبب الحرب وما خلفته من نزوح وتشريد وانهيار في البنية التحتية، برزت دولة الإمارات العربية المتحدة واحة أمل وسنداً حقيقياً للسودانيين في الداخل والخارج، حيث استضافت آلاف السودانيين الذين وجدوا فيها وطنهم الثاني الذي احتضنهم بحفاوة، ووفر لهم مقومات العيش الكريم.
وما يميز الدور الإماراتي في هذه الأزمة أنه لم يقتصر على استقبال آلاف السودانيين، وإنما سهل عملية دخولهم، مانحاً إياهم إقامات استثنائية، والوحيدة من نوعها على مستوى العالم تحت مظلة «إقامة دول الحروب الكوارث»، وهي إقامة لم تقم أي دولة باتخاذ مثل هكذا إجراء، حيث ساهمت هذه الإقامة في منح السودانيين الحق في ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، وهو ما لم يتوافر في كثير من دول الجوار التي كانت تقوم بوضع السودانيين في مناطق محددة باعتبارهم لاجئين، هذا القرار الإنساني يعكس رؤية قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة التي تضع كرامة الإنسان فوق كل اعتبار.
وكانت الإمارات حاضرة دائماً، وسباقة في المبادرة، لتؤكد مرة أخرى مكانتها ركيزة للعمل الإنساني العالمي، إذ لم تقف عند حدود استضافة السودانيين، بل امتد دعمها ليشمل تقديم مساعدات إنسانية عاجلة داخل السودان نفسه، فضلاً عن إيصال العون لملايين اللاجئين السودانيين في دول الجوار مثل تشاد وجنوب السودان وأوغندا وكينيا وإثيوبيا وحتى في جمهورية مصر العربية.
واليوم، السودانيون في مختلف أماكن وجودهم، ينظرون إلى الإمارات بعين التقدير والامتنان، ليس فقط لأنها مدت لهم يد العون في لحظة عصيبة، بل لأنها تعاملت معهم كإخوة تجمعهم روابط الدم والتاريخ والمصير المشترك، هي رسالة إنسانية سامية، تؤكد أن الإمارات لم تكن يوماً بعيدة عن قضايا أشقائها العرب، بل كانت ولا تزال حاضرة حيث يحتاجها الملهوف.
• بالحديث عن الاقتصاد، الأرقام تشير إلى انكماش يقارب 40% وفقدان نحو 4.6 ملايين وظيفة، والتضخم بلغ 400%، ما حجم التمويل المطلوب لإعادة بناء الاقتصاد السوداني وإعادة بناء البنية التحتية؟
هذه الحرب اللعينة دمرت البنية التحتية وشردت الملايين في داخل وخارج السودان، وقتلت أكثر من 200 ألف سوداني، وسيستغرق الأمر وقتاً قبل أن يتضح حجم الكارثة والتكلفة الحقيقية، وذلك نظراً لكونها كارثة غير مسبوقة، فبلغة الأرقم تعد هذه الكارثة الأكبر من حيث أعداد اللاجئين والمتضررين من الحرب بالمقارنة مع أعدادهم في كل من قطاع غزة وأوكرانيا مجتمعين.
ورغم قسوتها، ما زلنا نتمسك بالأمل بأننا سنتمكن من تجاوزها، وذلك بجهود السودانيين وتكافل الأشقاء، وعلى رأسهم دولة الإمارات العربية المتحدة.
ورداً على السؤال فإن المؤكد أن السودان سيحتاج إلى موارد ضخمة غير مسبوقة تقدر بمليارات الدولارات، حيث إن استعادة الاقتصاد ليست مجرد تمويل، بل ترتبط أولاً بوضع سياسات مناسبة وخلق مناخ جاذب للاستثمار، خصوصاً من رأس المال الإقليمي في الإمارات والسعودية والخليج.
• تحدثتم عن أهمية جذب الاستثمارات من دول الخليج.. هل السودان جاهز حالياً لبدء مفاوضات استثمارية؟
بصراحة، لا، الأولوية القصوى الآن هي لوقف الحرب وإنهاء الحرب، وهما كما تعلمون عمليتان منفصلتان، فوقف الحرب هي عملية فنية تتمثل في مراقبة ومتابعة وقف إطلاق النار وفق آليات معروفة ومحددة من قبل الأمم المتحدة، تتضمن توصيل المساعدات والمواد الإغاثية وغيرها، أما إنهاء الحرب فهي المرحلة التي تؤسس لعملية سياسية عبر الحوار الجامع.
ويظل اليوم التالي، أي بعد انتهاء الحرب أحد أهم الموضوعات الرئيسية التي يتوجب الإعداد لها، فالتاريخ علمنا أنه لا توجد حرب تستمر إلى الأبد، وعلينا جميعاً كسودانيين إيجاد أرضية جامعة للتوافق والحوار السياسي، بما يسهم في التأسيس لشكل انتقالي لما بعد الحرب، ومن ثم العمل على بناء الاقتصاد وإعادة الإعمار.
وعندما ننظر لهذه المسألة، في إطار الاضطراب الجيوسياسي المصاحب اليوم، فإن الوقع يشير إلى أنه لم تعد هنالك إمكانية للمضي قدماً في عقد المؤتمرات الخاصة بالمانحين، وبالتالي فإن عملية إعادة التأهيل واستعادة الاقتصاد لفترة ما قبل انقلاب 2021، تتطلب وضع سياسات مناسبة تسهم في خلق مناخ للاستثمار الخاص والعام.
السودان لن يستطيع حشد كل الموارد واستقطاب الاستثمارات، إن لم نتمكن من وضع سياسات جاذبة للاستثمار وخصوصاً لاستثمارات القطاع الخاص، وهنا يصبح من الضرورة بمكان مخاطبة رأس المال الإقليمي من الدول الشقيقة، بما فيها دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية وباقي دول مجلس التعاون الخليجي، وفقاً لآليات واتفاقيات ترتكز على مفهوم «وين وين ستويشن» أي وضع مربح للجانبين.
• يبدو للكثيرين أن إنهاء الحرب أمر بعيد المنال، والآن يوجد في السودان حكومتان بعد إعلان حميدتي تشكيل مجلس رئاسي لحكومة أخرى، كيف يمكن للسودان أن يعمل بشكل طبيعي في ظل هذا الانقسام؟
يجب أن نتفق أولاً أنه لا يوجد حل عسكري للأزمة في السودان، وهو ما ينقلنا إلى ضرورة فهم طبيعة الصراع الحالية، حيث إن تصويره على أنه صراع بين جنرالين تبسيط مخل؛ هي أزمة دولة عميقة ومعقدة تاريخياً وثقافياً وتنموياً، تتضمن ملفات عدة أهمها التهميش والتنمية غير المتوازنة، وهي ملفات يجب معالجتها بشكل كامل.
هذا لا يمكن إن يتم من خلال الحل العسكري، لن يستطيع أحد الطرفين المتحاربين أن يحقق نصراً عسكرياً نهائياً وحاسماً على الطرف الآخر، وعليه فإن الحل بيد الطرف الثالث: المدنيون، وهم العدد المهول والأكثر تضرراً، فهم المكتوون من نيران هذه الحرب، وهم القادرون على تأسيس وخلق مناخ يسمح باستعادة الحكم المدني والاستقرار والأمن، ويسهم في تطوير السودان وبناء بيئة جاذبة للاستثمارات الخاصة.
• من يتحمل المسؤولية عن فشل الانتقال الديمقراطي في السودان؟
هناك عوامل كثيرة، لكن السبب الأول هو المكون العسكري، خلال الفترة الانتقالية كنا قريبين من أن يستعيد السودان موقعه ودوره الإقليمي والعالمي، كنا قريبين جداً من تحقيق إعفاء للديون والعودة للنظام المصرفي العالمي، لكن انقلاب 25 أكتوبر 2021 أجهض كل شيء وأدخل السودان في نفق مظلم، حيث انتقلنا من الانقلاب إلى حرب كارثية ساهمت في تدهور الأوضاع يوماً تلو آخر.
• بالأرقام كيف كان وضع الاقتصاد للسودان قبل الانقلاب؟
بعد ثورة ديسمبر 2019، وفي توافق عريض تم تشكيل الحكومة الانتقالية، حيث تشرفت حينها بأن أكون جزءاً من قياداتها، عند تسلمنا دفة القيادة، تبين لنا أن النظام السابق أورثنا ديوناً تتجاوز الـ 60 مليار دولار.
بدأنا إصلاحات كبرى بهدف استعادة اقتصادنا، نجحنا في سداد ديوننا السيادية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الأفريقي، وحددنا سعر الصرف، ووفرنا في خزينة الدولة التي استلمناها خاوية، ملياراً ونصف المليار دولار كاحتياطي.
كنا على أعتاب إعفاء نصف ديون السودان في نوفمبر أي قبل انقلاب أكتوبر بأيام، وجميع المؤشرات كانت باتجاه إعادة إدخال السودان إلى المنظومة والاقتصاد العالمي، لكن الانقلاب دمر هذه الجهود وأضاع ثقة المجتمع الدولي، عاكساً صورة سيئة أوصلتنا مع الوقت إلى المأساة التي يعيشها السودان اليوم.
• لو كنت لا تزال إلى اليوم على رأس عملك رئيساً للوزراء، ما هي أولى خطواتك والقرارات التي ستتخذها لإنقاذ الاقتصاد؟
الاقتصاد لا يدار في فراغ وفقاً لقرارات رئيس مجلس الوزراء، بل في سياق واتفاق سياسي، لذلك أي رئيس وزراء لن ينجح ما لم يبنَ الأمر على اتفاق سياسي شامل، وبالتالي فان قراراتي كرئيس مجلس الوزراء في ظل غياب هذه المعادلة الأساسية لن تكلل بالنجاح، وعليه فإن الأولوية الآن لحل سياسي، وبعده يأتي الإصلاح الاقتصادي.
• كم من الوقت يحتاجه السودان ليستعيد عافيته الاقتصادية والعودة إلى وضعه الطبيعي قبل الحرب؟
أعتقد أنه سوف يأخذ وقتاً طويلاً. فسنتان بحسب تحليلات الخبراء وقت متفائل، حيث تم تدمير البنية التحتية على الرغم من ضعفها في الأساس، كما تم تشريد الملايين داخل وخارج السودان، فعلى سبيل المثال، فإن عودة أكثر من 4 ملايين لاجئ في مناطق اللجوء حول السودان واستيعابهم واستعادة الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وبنية تحتية، بما فيها الكهرباء والمياه والطرق، يتطلب مجهودات كبيرة.
تلك أمور مهمة لكن الأخطر والأكثر إيلاماً بالنسبة لي هو النزيف والفقد الكبير في الكفاءات والكوادر البشرية، بما فيهم أساتذة الجامعات والاقتصاديون والأطباء والخبراء الذين يغادرون السودان بشكل مستمر باحثين عن وظائف في دول أخرى، وبالتالي كلما طالت الحرب فإن معدلاتهم ستتناقص بشكل أسرع ويختفون عن الساحة السودانية، وسيصبح تعويضهم أصعب.
هنا سوف تدخل الحكومة السودانية في إشكالية جديدة، تتطلب منها فترة طويلة من العمل لإعداد وتأهيل كوادر سودانية، تساهم في تعافي وبناء السودان واستعادة الاقتصاد وعمل البنوك والجامعات، والمستشفيات والمدارس وغيرها.
• هناك أصوات عدة تطالب بعودتك للواجهة السياسية، ويرون أنه يجب أن يكون لك دور سياسي في هذه المرحلة الخطيرة، ما موقفك؟
استقلت في يناير 2022، بعدما أنجزنا ما استطعنا إنجازه، وبعد فترة من الزمن عدنا وقمنا بتأسيس أكبر تحالف مدني تحت مسمى «تقدم» والآن «صمود»، الذي يضم أكثر من 15 حزباً سياسياً بالإضافة إلى عدد كبير من نقابات المهنيين ومنظمات المجتمع المدني.
ومنذ اليوم الأول على تكوين تلك التحالفات، ونحن في حوار دائم مع طرفي الحرب البرهان وحميدتي ومع القوى الدولية، وشاركنا في حضور عشرات المؤتمرات والاجتماعات التي نظمها الاتحاد الأفريقي وبلدان الجور بما فيها مصر وإثيوبيا وكينيا وأوغندا وفي وأوروبا وتحديداً في باريس ولندن.
• أخيراً، هل أنتم متفائلون بانتهاء الحرب قريباً؟
أنا أعيش على التفاؤل، وأعتقد أنه مهما طالت هذه الكارثة لن تدوم، وستنتهي الحرب، وسيعود السودان وطناً معافى قادراً على المساهمة كرافعة إقليمية في كل المجالات بما فيها الاقتصاد، السودان مؤهل ليكون سلة غذاء العالم العربي والأفريقي، وأنا على إيمان بأنه سيأتي اليوم الذي سنستعيد فيه هذا الدور المهم.
