ابوظبي - ياسر ابراهيم - الخميس 18 ديسمبر 2025 01:21 صباحاً - بين ضغطة إعجاب وتعليق عابر، تتشكل في الفضاء الرقمي موجات من التحديات التي تجتاح عقول المراهقين وتجعلهم أسرى لشهرة آنية لا تتجاوز ثواني الفيديو، ومع كل ترند جديد، تتكرر المشاهد ذاتها: تقليد، مخاطرة، ثم كارثة.
تحذيرات واسعة أطلقها تربويون واختصاصيون في علم النفس والاجتماع من ظاهرة تقليد الترندات التي تنتشر على منصات التواصل، خصوصاً تطبيق «تيك توك»، حيث تحولت بعض المقاطع إلى تجارب خطيرة تهدد حياة الشباب والأطفال، بعد أن تجاوزت حدود المرح إلى التحدي الجسدي والنفسي.
وفي الوقت الذي تسهم فيه خوارزميات المنصات في تضخيم هذه الظاهرة عبر اقتراح الفيديوهات الأكثر انتشاراً، تؤكد الوقائع أن غياب الرقابة الأسرية والتربية الرقمية بات يفتح الباب أمام جيل يعيش بمنطق الشاشة، لا بمنطق الوعي.
تحديات.. وتحذير
في الآونة الأخيرة، شهدت منصات التواصل الاجتماعي وأبرزها «تيك توك» انتشار عدد من التحديات التي حذر منها خبراء التربية والصحة النفسية، أبرزها:
تحدي الثلج الذي كان يقوم المشاركون فيه بصب كميات من الماء المتجمد على رأسهم وأجسادهم أو وجوههم، ما تسبب في حالات صدمة حرارية والتهابات، وسكتات دماغية في بعض الحالات.
بالإضافة إلى تحدي الخنق الذي يعد أخطرها على الإطلاق، إذ يدعو جميع المراهقين إلى حبس أنفاسهم أو الضغط على أعناقهم حتى الإغماء، ما أودى بحياة أطفال في أكثر من بلد، وأخيرهم وليس آخرهم تحدي حرق الدمى الشريرة والمرعبة الذي يشجع على محاكاة مشاهد العنف أو الرعب بهدف التفاعل، ويؤثر سلباً على الأطفال الأصغر سناً، بالإضافة إلي العشرات من الترندات التي تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي.
وكانت القيادة العامة لشرطة دبي قد حذرت أفراد المجتمع، ولاسيما أولياء الأمور، من خطورة تقليد أبنائهم لمقاطع الفيديو المتداولة عبر منصات التواصل الاجتماعي، والخاصة بترند «حرق الدمى الشريرة»، سواء في أماكن عامة أو داخل المنازل، مؤكدة أن هذا السلوك يُعد تصرفاً خطيراً يُمكن أن يؤدي إلى اندلاع حرائق مدمرة، وإصابات جسيمة، أو حتى وفيات.
ودعت أولياء الأمور إلى مراقبة سلوك أبنائهم على الإنترنت، وتوعيتهم بالمخاطر المترتبة على تقليد «التريندات» غير الآمنة التي تنتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي.
منوهة بأن هذه المقاطع تستهدف بالمقام الأول استقطاب المشاهدات دون أي مراعاة لما يترتب عليها من مخاطر وعواقب كارثية قد تنجم عن إشعال النار في مواد سريعة الاشتعال مثل الأقمشة أو البلاستيك أو الشعر الصناعي المستخدم في الدمى، الأمر الذي يتسبب في اختناق أو حريق في الأماكن المغلقة.
ومثل هذه التحديات، التي تنشأ عادة في بيئات رقمية غربية، تجد طريقها سريعاً إلى المراهق العربي الذي يتلقفها دون وعي بخطورتها أو اختلاف السياق الثقافي والنفسي.
وقائع عربية مؤلمة
شهد لبنان حادثة مأساوية حين توفي طفل يبلغ 12 عاماً أثناء مشاركته في تحدي «لقمة واحدة» (One Bite) الذي انتشر وقتها على تطبيق «تيك توك»، بعد أن حاول ابتلاع قطعة كبيرة من الكرواسان دفعة واحدة.
المدرسة التي وقعت فيها الحادثة أوضحت أن الطفل اختنق أثناء تنفيذ التحدي في ساحة الاستراحة، وفشلت محاولات إنقاذه. الحادثة صدمت الرأي العام اللبناني ودفعت وزارة التربية إلى إصدار تعميم عاجل يحذّر من التحديات الرقمية في المدارس.
وفي مصر، تحول فيديو «المزاح» إلى جريمة قتل، حيث لقي طالب في المرحلة الثانوية مصرعه بعد أن حاول زملاؤه تصوير مقطع «تيك توك تمثيلي» أثناء تقييده بحبال وضربه على سبيل المزاح.
ولكن المزاح تحول إلى مأساة، إذ فقد الطالب وعيه وسقط أرضاً مصاباً بنزيف دماغي، ما أدى إلى وفاته. والتحقيقات أثبتت أن الهدف من الفيديو كان تقليد مشهد متداول ضمن ترند عنيف على التطبيق.
أما تحدي «تشارلي» فأدى إلى حوادث عدة في مختلف الدول، إذ أقدم طفل في القليوبية بمصر على شنق نفسه داخل غرفته أثناء محاولته تقليد الفيديو المنتشر على «تيك توك»، والتحقيقات كشفت عن أن الطفل كان يتابع مقاطع تشرح اللعبة ويقلدها بهدف التجربة، دون إدراك لخطورتها.
والحادثة دفعت وزارة التربية والتعليم المصرية إلى مطالبة المدارس بتوعية الطلاب حول الألعاب والتحديات الرقمية، واعتبر مختصون أنها نتيجة مباشرة لفقدان الوعي الرقمي داخل الأسر والمدارس.
كما ظهرت حوادث متفرقة تؤكد الخطر في دول عربية أخرى، حيث رصدت إصابات متفاوتة نتيجة تقليد التحديات منها إصابة مراهق مغربي بحروق في الجلد بعد تجربة تحدي «الثلج والملح».
وتسجيل حالات اختناق خفيفة في الأردن إثر محاولات لتقليد تحدي الخنق، وبلاغ من أولياء أمور في الإمارات حول محاولات أطفال صغار لتكرار مشاهد «حرق الدمى الشريرة» بعد مشاهدتها على المنصات، وهذه الوقائع وإن بدت فردية إلا أنها تكشف اتساع رقعة الخطر في العالم العربي، خصوصاً مع تصاعد معدلات الاستخدام اليومي للتطبيقات بين الفئة العمرية من 10 إلى 17 عاماً.
قانون حماية الطفل
في نظرة إلى هذه القضية الاجتماعية الشائكة، أكدت موزة الشومي، (نائب رئيس جمعية الإمارات لحماية الطفل)، أن قانون حماية الطفل منح الأطفال حق الوصول إلى الإنترنت والحصول على المعرفة دون منع، لكنه في الوقت ذاته وضع ضوابط واضحة تضمن ألا يتجاوز هذا الاستخدام النظام العام أو الآداب العامة، حفاظاً على سلامتهم النفسية والجسدية والعقلية.
واعتبرت الشومي أن القانون لا يقف عند حدود منح الحقوق، بل يلزم الأسرة أيضاً بواجبات أساسية، أبرزها توفير التوجيه المستمر، والإرشاد اليومي، والمتابعة الدقيقة لاستخدام الأبناء للإنترنت.
وأضافت أن المادتين 35 و36 من القانون حددتا مسؤوليات الأسرة في حماية الطفل من الإهمال والتشرد، ومن أي ممارسات قد تعرض حياته للخطر، سواء داخل المنزل أو في المدرسة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وأوضحت أن «من حق الطفل أن يدخل الإنترنت ويبحث ويستفيد، لكن من واجب الأسرة أن تضمن أن هذا الاستخدام لا يخرجه عن حدود النظام والآداب العامة، لأن القانون أعطى حرية المعرفة، وفي الوقت نفسه وضع التزامات لحماية الطفل من أي ضرر»، وشددت على أن الرقابة ليست غاية بحد ذاتها، بل يجب أن تكون مصحوبة بحوار وتوعية دائمة داخل الأسرة.
ونوهت بأن أخطر ما يواجه الأطفال اليوم هو انتشار الترندات الخطرة والتحديات التي قد تبدو للطفل تسلية بسيطة، لكنها في الحقيقة تحمل مخاطر جسيمة يمكن أن تهدد سلامتهم، مؤكدة أن غياب التوعية والإرشاد قد يجعل الأطفال أكثر عرضة لهذه السلوكيات.
وأضافت أن بعض حالات التعرض لمشكلات رقمية قد لا تظهر داخل المنزل فقط، بل قد يكشف عنها المجتمع المدرسي، ما يجعل التعاون بين الأسرة والمدرسة ضرورة.
مشيرة إلى أن ولي الأمر مسؤول مجتمعياً قبل أن يكون مسؤولاً داخل بيته. وقالت إن «المشكلة عندما تحدث عبر الإنترنت أو داخل المدرسة لا تعني أن الأسرة وحدها تتحملها، فالمجتمع كله له دور في حماية أبنائنا».
وأكدت الشومي أن العقوبات منصوص عليها في القانون، لكنها ليست الهدف الأساسي، موضحة أن التركيز يجب أن يكون على التوعية قبل كل شيء لأن الوقاية خير من العلاج.
ودعت الأسر إلى تعزيز الحوار مع أبنائهم، وإلى المتابعة المستمرة لكل ما يتابعونه على منصات التواصل، تجنباً لأي مخاطر قد تنتج عن الإهمال أو ضعف الوعي. وأكدت على أن المنابر الإعلامية شريك رئيسي في نشر الوعي، قائلة إن تعزيز الإرشاد المجتمعي والتوعية الأسرية هو خط الدفاع الأول لحماية الأطفال في البيئة الرقمية.
بناء شخصية قيادية
من جانبها، رأت الدكتورة هدى المطروشي، (مديرة جمعية مرشدات الإمارات)، أن الترندات الرقمية لم تعد مجرد وسيلة ترفيه بالنسبة للطلبة، بل تحولت إلى مصدر ضغط اجتماعي قد يدفع بعض الفتيات إلى تقليد ما يشاهدنه دون إدراك لتأثيراته النفسية والسلوكية.
وقالت إن موجات المحتوى السريع على المنصات تشكل في أحيان كثيرة صورة زائفة للنجاح أو القبول الاجتماعي، وهو ما يجعل التربية القيادية ضرورة ملحّة لحماية الطالبات من الانسياق وراء هذه التأثيرات.
وأشارت إلى أن بناء شخصية قيادية واعية لدى الفتيات يعد خط الدفاع الأول ضد الترندات السلبية، لأن الفتاة التي تمتلك ثقة عالية في ذاتها، وتعرف كيف تحدد أولوياتها، وتفكر بنقد قبل اتخاذ أي قرار، لا تنجذب بسهولة لظواهر سطحية لا تعكس قيم المجتمع الإماراتي.
وأضافت أن البرامج الإرشادية والمهارية التي تقدمها الجمعية تخلق بيئة آمنة للفتيات للتعبير عن أنفسهن وتطوير مهارات الحوار واتخاذ القرار، وهي مهارات تساعدهن على مقاومة الضغوط الرقمية وتفضيل المحتوى النوعي على المحتوى الزائل.
وأكدت أن تعزيز القيم الإماراتية الأصيلة مثل الانضباط، المسؤولية، والاحترام، التي تقدمها الأنشطة الكشفية تسهم في خلق جيل قادر على التعامل مع العالم الرقمي بثقة ووعي.
خطر الخوارزميات
من جهته، قال الدكتور المهندس خالد النابلسي، (الاختصاصي في الذكاء الاصطناعي) أن أخطر ما في الترندات الرقمية اليوم ليس المحتوى نفسه، بل الخوارزميات التي تقف خلفه، لأن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تمتلك القدرة على التفرقة الأخلاقية بين المحتويين الإيجابي والخطر، بل تتعامل معه بوصفه «بيانات ناجحة» تحقق معدلات تفاعل عالية.
وأضاف إن منصات التواصل تعمل وفق نماذج تعلم عميق هدفها إطالة مدة بقاء المستخدم، مما يجعل أي محتوى قادر على إثارة الانتباه مرشحاً للانتشار السريع، حتى لو كان يحمل مخاطر سلوكية أو نفسية على الطلبة.
وأضاف أن هذه الخوارزميات صُممت لتعظيم الأرباح، وليس لحماية الوعي الجمعي، ولهذا يمكن لفيديو واحد غير مدروس أن يتحول إلى تحدٍّ واسع خلال ساعات قليلة.
واعتبر النابلسي بأن الذكاء الاصطناعي أصبح اليوم عنصراً فاعلاً في تشكيل الترندات، لكنه لا ينشئها بقرار واعٍ، بل يرفعها إلى الأعلى استناداً إلى أنماط التفاعل فقط، دون أي تقييم لسلامتها أو أثرها التربوي، وهو ما يجعل الطلبة الفئة الأكثر تأثراً بهذه الدوامة الرقمية.
وشدد على ضرورة أن تمتلك المدارس والأسر وعياً تقنياً يساعدهم على فهم طريقة عمل أنظمة التوصية، حتى لا يقع الطلاب ضحية خداع المحتوى اللحظي الذي قد يُظهِر التحدي وكأنه سلوك شائع، بينما هو في الحقيقة مجرد تضخيم خوارزمي.
ولفت إلى أن الحل لا يكمن في منع التكنولوجيا، بل في بناء مهارات التفكير النقدي لدى الطلبة، وتعزيز قدرتهم على التمييز بين ما يحقق انتشاراً وما يحقق قيمة، لأن العالم الرقمي كما قال صار يكافئ الجاذبية أكثر مما يكافئ الحقيقة.
إثبات وجود
ومن جهتها، أوضحت الدكتورة ميساء عبدالله (الاختصاصية النفسية من العراق)، أن تقليد الترندات ليس مجرد رغبة في التسلية، بل محاولة لا شعورية للانتماء، حيث يجد المراهق في التحدي وسيلة لإثبات وجوده في عالم رقمي صاخب.
وقالت إن «الخطر النفسي الحقيقي يكمن في أن يتحول التقليد إلى وسيلة لتعويض النقص أو الهروب من الواقع، فتتشكل شخصية رقمية مزيفة تعيش على الإعجاب الوهمي»
وأضافت أن التربية الحديثة مطالبة بتطوير مناهج تعزز التفكير النقدي منذ المراحل الأولى، وتدمج مفاهيم السلامة الرقمية في المقررات الدراسية، مؤكدة أن الرقابة لا يجب أن تكون قمعاً، بل مشاركة في الحوار والمحتوى.
فخ الشهرة
وقالت سها القدسي (المعلمة في إحدى المدارس الخاصة بدبي): إن بعض الأسر تتعامل مع الإنترنت كوسيلة تسلية صامتة، تتيح لها راحة مؤقتة من متابعة الأبناء.
لكنها لا تدرك أنها بذلك تتركهم تحت وصاية الخوارزميات. وأشارت إلى أن المنصات الرقمية تخلق بيئة تنافسية مضللة، تجعل الطفل يقيس قيمته بعدد المشاهدات، ما يدفعه إلى تقليد أي محتوى يحقق انتشاراً واسعاً.
وأكدت أن الحل يبدأ من بناء الثقة بين الأهل وأبنائهم، وفتح نقاش مستمر حول ما يشاهدونه، مع توجيههم لتمييز المحتوى الهادف من المضلل. كما دعت المدارس إلى تنظيم جلسات توعية رقمية للأسر، لأن الوقاية لا تبدأ من الهاتف، بل من البيت.
تقليد رقمي
رأت الدكتورة ليلى أحمد (تربوية) أن أخطر نتائج ظاهرة الترندات هي إضعاف ملكة التفكير التحليلي لدى الطلبة، إذ يتحول المستخدم من فاعل إلى متلقٍ سلبي.
وقالت إن بعض المدارس لاحظت سلوكيات غريبة بين الطلبة، كتصوير مقاطع داخل الصفوف أو أثناء الطابور الصباحي لتقليد ترندات غربية، ما يدل على تأثير مباشر للمنصات في تشكيل السلوك اليومي.
وأضافت أن إدخال التربية الإعلامية في المناهج ضرورة لا ترف، لأن الجيل الرقمي يحتاج إلى مهارات تفكيك الرسائل الإعلامية وفهم سياقها، حتى لا يصبح تابعاً لمحتوى عابر يفتقد للمعنى أو القيمة.
دوامة إدمان
قال مروان حامد مرشد (أكاديمي في إحدى مدارس دولة الإمارات)، إن بعض المراهقين لا يكتفون بتجربة الترند مرة واحدة، بل يدخلون في دوامة الإدمان على المشاركة سعياً للتفاعل المستمر.
وأوضح أن الخطر الاجتماعي يكمن في أن يصبح الطفل مهووساً بالتصوير والمقارنة، فيفقد اهتمامه بالأنشطة الواقعية، ويدخل في عزلة رقمية تتزايد آثارها النفسية بمرور الوقت.
وأضاف أن العلاج يبدأ من تغيير بيئة المراهق نفسها، عبر إشراكه في أنشطة اجتماعية وفنية تحفزه على التعبير عن ذاته بطرق آمنة، مؤكد أن «الأب الذي يشارك ابنه في تصوير مقطع توعوي يزرع في داخله وعياً مضاداً لتقليد الترندات».
تغذية المحتوى
ومن جهته، قال الدكتور المهندس عبيد صالح المختن (باحث في تقنية المعلومات والجريمة الإلكترونية)، إن انتشار التحديات ليس عشوائياً كما يبدو، بل هو ناتج عن تصميم خوارزميات تغذي المحتوى الذي يثير مشاعر قوية، سواء كانت خوفاً أو دهشة أو غضباً.
موضحاً أن النظام القائم في «تيك توك» يعتمد على «تغذية تفاعلية» مستمرة، أي أنه يقترح على المستخدمين مقاطع مشابهة لما تفاعلوا معه سابقاً، ما يجعلهم يدخلون في فقاعة محتوى مغلقة، تكرّس الأفكار ذاتها وتضخم السلوكيات الخطرة.
حب مستعار
وقال الدكتور شافع النيادي، (خبير التنمية البشرية والعلاقات الأسرية)، أن الفراغ العاطفي داخل الأسرة هو أحد أهم العوامل التي تدفع الأطفال واليافعين إلى الاحتماء بمنصات التواصل الاجتماعي، بحثاً عن مشاعر مفقودة أو دعم لا يجدونه في محيطهم القريب.
وأضاف إن كثيراً من السلوكيات الرقمية المنتشرة بين الطلبة، بما في ذلك الانسياق وراء الترندات، ليست ناتجة عن رغبة في الشهرة بقدر ما هي محاولة لتعويض نقص عاطفي أو شعور عميق بعدم التقدير.
وأكد أن المحتوى الذي يقدمه بعض الشباب عبر مواقع التواصل ليس إلا صرخة غير معلنة تقول: «أريد أن يلاحظني أحد»، مشيراً إلى أن الترند بات بالنسبة للبعض وسيلة للحصول على الاهتمام الذي لم يجدوه في الحوار الأسري أو الاحتواء داخل البيت.
وأفاد أن الطفل أو المراهق الذي لا يحظى بوقت نوعي مع أسرته، ولا يسمع كلمات دعم أو احتواء من والديه، يصبح أكثر عرضة للارتماء في حضن العالم الرقمي، حيث يجد تعليقات وإعجابات تمنحه شعوراً سريعاً بالقبول، حتى لو كان هذا القبول مؤقتاً أو مشوهاً.
وشدد على أن الترندات تمنح الشباب حباً لحظياً لا يبني شخصية ولا يعالج جرحاً عاطفياً، بل يزيد التعلّق المرضي بالمحتوى وردود الفعل الافتراضية.
وأكد أن الحل يبدأ من الأسرة قبل المدرسة، من خلال إعادة بناء جسور التواصل، وخلق بيئة عاطفية دافئة يشعر فيها الأبناء أنهم مرئيون، مسموعون، ومحبوبون دون الحاجة إلى اللهاث خلف اهتمام الغرباء.
ورأى أن الوقاية الحقيقية من الترندات السلبية ليست تقييد الهواتف، بل تعويض القلب بما يحتاجه قبل أن يبحث عنه في المكان الخطأ.
6 أدوار محورية
وأكد محمد عبيدات (خبير تربوي دولي) أن المدارس باتت تمتلك اليوم مسؤولية مضاعفة في ظل الانتشار الهائل للترندات عبر منصات التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت تشكّل تأثيراً مباشراً على سلوك الطلبة وأنماط تفاعلهم داخل المدرسة وخارجها.
وأوضح أن هذه الظاهرة لم تعد مجرد «مواد ترفيهية» يتداولها الطلبة، بل تحولت إلى ضغوط اجتماعية قد تدفعهم لتقليد محتوى غير آمن أو لا يتناسب مع أعمارهم، ما يفرض على المدرسة أدواراً جديدة تتجاوز التعليم التقليدي.
وأشار إلى أن معالجة هذا التحدي تتطلب إطاراً تربوياً شاملاً يتكامل فيه المعلم، والإدارة المدرسية، والأسرة، لخلق بيئة واعية تحمي الطلبة من مخاطر اللهاث وراء كل محتوى رائج.
وأوضح أن المدرسة يمكنها معالجة هذا السلوك من خلال ستة أدوار محورّية تشكل خط الدفاع الأول في ثقافة الوعي الرقمي لدى الأجيال الجديدة. وفي الدور الأول، شدّد عبيدات على أهمية التوعية الرقمية المنظمة داخل المدرسة، بحيث لا يظل وعي الطلبة مرهوناً بالمصادفة أو بخبرات شخصية غير ناضجة.
أما الدور الثاني فيتمثل في مراقبة السلوك داخل المدرسة ورصد التحولات المبكرة التي تشير إلى انتشار أحد الترندات بين الطلبة، خاصة تلك التي تعتمد على التصوير السري، أو التحديات الخطرة، أو السلوكيات التنمرية التي تنتشر عادة بهدف «الانتشار السريع».
وأوضح أن المدرسة مطالبة بوضع آليات يومية للرصد السلوكي، وتمكين المعلمين من ملاحظة أي تغيير غير طبيعي في تفاعل الطلبة أو لغتهم أو محتواهم الرقمي.
وفي الدور الثالث، شدّد الخبير التربوي على ضرورة إشراك أولياء الأمور كشركاء فاعلين في معالجة الظاهرة، وذلك عبر نشرات دورية، جلسات تثقيفية.
ويبرز الدور الرابع من خلال تعزيز البدائل السلوكية الإيجابية داخل المدرسة، عبر تقديم أنشطة قادرة على جذب اهتمام الطلبة وتوجيه طاقتهم نحو تجارب نافعة.
أما الدور الخامس فهو بناء شخصية رقمية واعية لدى الطالب، عبر دمج التربية الرقمية في المناهج أو الأنشطة الصفية واللاصفية، وتمكينه من مهارات التفكير النقدي والتحقق من المعلومات.
وفي الدور السادس والأخير، دعا عبيدات المدارس إلى إصدار سياسات واضحة للسلوك الرقمي يكون الطالب وولي الأمر على وعي كامل بها، وتشمل ضوابط استخدام الأجهزة، منع التصوير داخل الحرم المدرسي، العقوبات التربوية المتدرجة، وإجراءات حماية الخصوصية.
بيئة خصبة
أوضحت التربوية الكويتية سناء البراك أن ترك أوقات فراغ واسعة لدى الأبناء يشكل بيئة خصبة لاندفاعهم نحو الترندات الخطيرة، وفي غياب البدائل الإيجابية يصبح المحتوى الرقمي هو المتحكم الأول في وعي الطفل والمراهق.
وقالت إن الحل يبدأ من الأسرة والمدرسة معاً، من خلال ملء يوم الطالب ببرامج تعليمية وتطوعية وأنشطة رياضية، وأخرى مهارية تعزز ثقته بنفسه وتمنحه إحساساً بالإنجاز والانتماء، بدلاً من تركه فريسة للمنصات التي لا تفرّق بين المفيد والضار، مشيرة إلى أن كثيراً من السلوكيات الرقمية لدى الشباب ليست رغبة في الشهرة بقدر ما هي محاولة لتعويض نقص في الاهتمام أو الاحتواء.
وأكدت أن جهود دولة الكويت في هذا المجال تعد نموذجاً مهماً، حيث تعمل الدولة على تعزيز الرقابة المنظمة على المحتوى الرقمي وتطوير تشريعات تحمي النشء من الممارسات الإعلامية غير المنضبطة.
وأشارت إلى أن مناقشة قانون الإعلام الجديد لعام 2025، الذي يلزم المؤثرين بالحصول على ترخيص رسمي قبل الترويج لأي محتوى، يعكس إدراكاً وطنياً بخطورة بعض الترندات التي تصنع على منصات التواصل دون مراعاة للأخلاق أو سلامة المجتمع.
وأضافت أن هذه الخطوة تمثل انتقالاً من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الوقاية، بحيث لا يترك الأبناء عرضة لما يسمى «ترندات الشهرة اللحظية»، مؤكدة أن نجاح هذه الجهود يرتبط أيضاً بدور المدرسة والأسرة في توجيه الأبناء نحو أنشطة نوعية تستثمر وقتهم وتحصن وعيهم من الانجراف وراء المحتوى الزائل.
تطبيقات «الكنترول» الأبوي هي الحل
أكد مهندس الحاسوب محمود أبو الفتوح، أن استخدام تطبيقات الكنترول الأبوي (Parental Control) لم يعد رفاهية، بل ضرورة لحماية الأبناء في ظل الانفتاح الرقمي.
موضحاً أن هذه التطبيقات تتيح لولي الأمر التحكم المباشر في أجهزة الأبناء، سواء الهواتف الذكية أو الأجهزة اللوحية، من خلال ضبط الإعدادات الرقمية بما يتناسب مع عمر الطفل واحتياجاته.
وأوضح أن تطبيقات الكنترول الأبوي تمكن الأسر من إغلاق المواقع غير المناسبة، وتحديد ساعات الاستخدام اليومية، وحصر التطبيقات المسموح بها، إضافة إلى مراقبة نوعية المحتوى الذي يتعرض له الأبناء، مؤكداً أن هذه الأدوات تعد من أكثر الوسائل فاعلية للحد من تقليد الترندات السلبية والتحديات الخطرة المنتشرة بين الأطفال والشباب حتى سن 16 عاماً.
وأشار إلى أن الحل لا يتمثل في المنع الكامل للتكنولوجيا، بل في الإدارة الواعية للاستخدام، داعياً أولياء الأمور إلى دمج الحلول التقنية مع الحوار الأسري المستمر، لشرح مخاطر بعض المحتويات الرقمية، وبناء وعي يحصن الأبناء من الانجراف خلف التقليد الأعمى لما ينشر عبر المنصات الرقمية.
استطلاع «حال الخليج »: %80.7 من المشاركين يؤكدون غياب التوعية الرقمية الكافية لدى أبنائهم
كشف استطلاع رأي أجرته «حال الخليج»، عبر منصتها الرقمية، عن وجود فجوة مقلقة في مستوى التوعية الرقمية المقدمة لدى الأطفال، إذ أظهرت نتائجه أن 80.7% من المشاركين أكدوا أن أبناءهم لا يحصلون على توعية رقمية كافية، تحميهم من الانحرافات والمخاطر الإلكترونية، مقابل 19.3% فقط أفادوا بتوافر هذا النوع من التوعية، وشارك في الاستطلاع 57 شخصاً.
وقال المشاركون إن غياب التوعية الرقمية لا يرتبط فقط بعدم وجود برامج متخصصة، بل يعود في جانب كبير منه إلى انشغال الأسر، وضعف المعرفة بطبيعة المخاطر الرقمية المتجددة، لافتين إلى أن كثيراً من أولياء الأمور يكتفون بتوفير الأجهزة الذكية لأبنائهم دون مرافقة رقمية أو توجيه مستمر.
وأوضح المشاركون أن من أبرز الجوانب، التي يفتقدها الأطفال اليوم، التوجيه العملي لكيفية التعامل مع الغرباء عبر الإنترنت، والتمييز بين المحتوى الآمن وغير الآمن، إلى جانب غياب ثقافة الإبلاغ عن أي إساءة رقمية أو محتوى مقلق قد يتعرض له الطفل.
وشدد المشاركون في الاستطلاع على أن المدارس مطالبة بتعزيز دورها في التوعية الرقمية، من خلال برامج منتظمة وورش تفاعلية، تواكب الواقع الرقمي، الذي يعيشه الطلبة خارج أسوار المدرسة، مؤكدين أن التوعية الرقمية لم تعد خياراً، بل ضرورة لحماية النشء وبناء جيل واعٍ قادر على استخدام التكنولوجيا بشكل آمن ومسؤول.
