ابوظبي - ياسر ابراهيم - السبت 26 يوليو 2025 11:46 مساءً - عززت دولة الإمارات علاقتها بالأرض عبر مسار زراعي جديد يقوم على الاستدامة، والتكنولوجيا، والتخطيط بعيد المدى، فعلى الرغم من البيئة الصحراوية والتحديات المائية نجحت الدولة في بناء منظومة زراعية ذكية تعزز الإنتاج المحلي، وتحقق الاكتفاء الذاتي تدريجياً، وتسهم في استقرار منظومة الأمن الغذائي، وهذا التحول ثمرة لرؤية استراتيجية تبنتها الدولة منذ أكثر من عقد، تستند إلى تطوير البنية التحتية الزراعية، وتحفيز البحث والابتكار، وتنمية سلاسل القيمة، وتحقيق التوازن بين الإنتاج والحفاظ على الموارد.
لم تعد الزراعة في الإمارات نشاطاً موسمياً هامشياً، بل باتت تمثل مكوناً رئيسياً في سياسات التنمية المستدامة، ومحوراً أساسياً في الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي، وشهد هذا التحول قفزات نوعية على مستوى التنظيم والإنتاج، حيث تم التوسع في الرقعة الزراعية، وتحديث أنظمة الري، واعتماد أنماط إنتاج جديدة تتلاءم مع البيئة الصحراوية، وبحسب آخر الإحصاءات الرسمية بلغ عدد المزارع العاملة في الدولة أكثر من 33 ألف مزرعة، تتوزع بين الزراعة التقليدية، والزراعة العضوية، والمزارع المائية، ويعكس هذا التنوع تطور النموذج الزراعي الوطني وتكيفه مع المتغيرات البيئية.
وبلغ إنتاج المزارع المحلية من الخضراوات سنوياً أكثر من 328 ألف طن، ومن المحاصيل الحقلية والأعلاف حوالي 435 ألف طن، بينما يصل إنتاج الفاكهة إلى ما يقارب 369 ألف طن، وتمكّن هذا النمو في الإنتاج من تغطية أكثر من 20 % من إجمالي الطلب المحلي على الخضراوات، في حين تبلغ نسبة الاكتفاء الذاتي في بعض المحاصيل مثل الخيار نحو 80 %، ويمتد هذا التنوع ليشمل زراعة الطماطم، الفلفل، الباذنجان، الكوسا، الجوافة، الحمضيات، الموز، اللوز، التين، والسدر، إلى جانب التوسع في إنتاج التمور كمورد زراعي وتراثي واقتصادي استراتيجي.
ومن أبرز أدوات الاستدامة الزراعية التي اعتمدتها الدولة لتحقيق خطوة مهمة نحو الاكتفاء الذاتي نظام الزراعة داخل البيوت المحمية، والذي يسمح بإنتاج محاصيل على مدار العام بكفاءة عالية، وقد تجاوز عدد البيوت المحمية في إمارة أبوظبي وحدها حاجز 19 ألف بيت، أنتجت مجتمعة أكثر من 99 ألف طن من الخضراوات خلال عام واحد، ما يعادل أكثر من 70 % من إجمالي إنتاج الإمارة، وتمتد مساحة الأراضي المزروعة ضمن هذه البيوت إلى آلاف الدونمات، بقيمة سوقية بلغت أكثر من 254 مليون درهم.
وبهدف تقليل الاعتماد على التربة والمياه العذبة، توسعت الدولة في اعتماد تقنيات الزراعة المائية، والتي تعد من أكثر النظم فعالية من حيث الاستهلاك المائي والإنتاجية، ويبلغ عدد المزارع المائية في الدولة أكثر من 87 مزرعة مائية موزعة في مختلف مناطق الدولة، وتستخدم أنظمة إنتاج تفوق بأربعة أضعاف نظيراتها في الزراعة التقليدية، باستخدام مساحات أقل ومغذيات دقيقة، وقدرتها على توفير مياه الري بنسبة تتراوح بين 70 - 90 % مقارنة بالأنظمة التقليدية، والتي تزيد بالتالي من كفاءة استخدام المياه في وحدة المساحة، إلى جانب تمتعها بإنتاجية عالية ذات جودة مرتفعة بسبب الزراعة المكثفة للمحاصيل في وحدة المساحة مقارنة بالزراعة التقليدية بما يقارب 3 - 4 أضعاف لصالح الزراعة بدون تربة، وتُزرع فيها محاصيل متنوعة مثل الخيار، الخس، الطماطم الكرزية، الفراولة، والفلفل باستخدام هذه التقنية، ما يعزز قدرة الدولة على تلبية الطلب المحلي، ويوفر بدائل إنتاج مرنة في بيئة ذات موارد مائية محدودة.
توسع ملحوظ
وضمن جهود تنويع الإنتاج الزراعي، شهدت الإمارات توسعاً ملحوظاً في زراعة القمح كمحصول استراتيجي، بهدف بناء مخزون وطني مستقر من الحبوب، وقد تم تنفيذ مشاريع ناجحة في عدد من المناطق، حيث تعد مبادرة «قمح الإمارات» إحدى المبادرات الرائدة في مجال الزراعة، وقد بدأت عام 2017، بمجهود فردي تطوعي لمزارعين إماراتيين، لا يزيد عددهم على 16 مزارعاً، ثم انتشرت خلال الأعوام الماضية حتى أصبحت تضم الآن نحو 200 مزرعة، تنتج أكثر من 80 طناً من القمح سنوياً على مستوى الدولة خلال موسم الحصاد.
وفي مارس 2022 أطلقت إمارة الشارقة مشروع مزرعة القمح بمنطقة مليحة، حيث تنتج الشارقة واحداً من أجود أنواع القمح في العالم، لاحتوائه على أعلى نسبة من البروتين، وخلوه من أي مواد كيميائية أو أسمدة وغيرها من المواد الضارة بصحة الإنسان.
وفي سياق متصل، تشهد مزارع الألبان تطوراً لافتاً، سواء من حيث السلالات أو أساليب التربية أو الرقابة البيطرية، ما أسفر عن زيادة ملحوظة في إنتاج الحليب الطازج محلياً، وتقليص الفجوة بين العرض والطلب في السوق الداخلي.
وفي إطار دعم الامتثال للممارسات الزراعية المسؤولة، أطلقت الدولة «العلامة الوطنية للزراعة المستدامة» بوصفها إطاراً توثيقياً يُمنح للمنشآت الزراعية التي تستوفي معايير متقدمة في جوانب الإدارة البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
وتعد العلامة أداة استراتيجية لتعزيز ثقة المستهلك، ورفع تنافسية المنتج المحلي في الأسواق الوطنية والإقليمية، ويُمنح اعتماد العلامة لفترة تمتد ثلاث سنوات، بعد تقييم دقيق يراعي نظم الإنتاج، إدارة الموارد، آليات الري، جودة التربة، وكفاءة العمليات التشغيلية، كما تسهم هذه العلامة في فتح آفاق تصديرية للمنتجات المستدامة، لا سيما في ظل تصاعد الطلب العالمي على المنتجات الزراعية التي تراعي الاستدامة البيئية.
منظومة موحدة
ما يميز التجربة الإماراتية في الزراعة المستدامة ليس فقط تنوع المبادرات، بل درجة التكامل بين مختلف القطاعات والجهات الحكومية، إذ يعمل القطاع الزراعي ضمن منظومة وطنية موحدة تجمع بين السياسات الاتحادية، والمبادرات المحلية، والجهود التشريعية، والدعم الفني والتمويلي، بالإضافة إلى تمكين الابتكار والبحث العلمي.
وقد ساهم هذا التكامل في ترسيخ مناخ ملائم للاستثمار الزراعي، واستيعاب التقنيات الحديثة، وتحقيق انتقال مرن من أنماط الزراعة التقليدية إلى أنظمة إنتاج ذكية ومتطورة، تراعي التحديات البيئية وتتماشى مع متطلبات الأمن الغذائي، فضلاً عن خلق شراكات مع الجامعات الوطنية مثل جامعة الإمارات لإكمال الجهود الوطنية في تحقيق الأمن الغذائي، حيث استطاع فريق من الباحثين بالمركز، من تطوير وإنتاج مليون شجرة نخيل من 65 صنفاً ونوعاً، واستنبات أكثر من 60000 إلى 80000 نبتة جديدة سنوياً، كنتيجة لاستخدام تقنيات الزراعة العلمية وتقنيات زراعة الأنسجة الحديثة.
التحول إلى الزراعة المستدامة في الإمارات ارتكز بشكل محوري على تسخير التكنولوجيا، ليس فقط في الإنتاج، بل على امتداد سلسلة القيمة الغذائية، وتشمل هذه التقنيات أنظمة ري ذكية، وأجهزة استشعار عن بعد، وطائرات مسيرة لمراقبة المحاصيل، وأنظمة ذكاء اصطناعي لتحليل بيانات التربة والطقس.
وتسعى الدولة إلى تمكين المزارعين من الوصول إلى هذه التقنيات من خلال برامج تدريبية، ومنصات إرشاد رقمي، ومبادرات تحفيزية لاقتناء المعدات الحديثة، بما يعزز التحول الفعلي نحو الإنتاج القائم على البيانات الدقيقة والمراقبة المستمرة.
أخبار متعلقة :