الرياض - ياسر الجرجورة في الأربعاء 5 نوفمبر 2025 12:43 صباحاً - وسط مشهد يفيض بالتناقض، تتكشف أمامنا سياسات صحية لا تخلو من الغرابة. فالعالم، الذي يرفع شعار محاربة التدخين ويضخ المليارات سنويًا في سبيل ذلك، يُبقي التبغ متاحًا على أرفف المتاجر، بينما يُحاصر السجائر الإلكترونية بقيود خانقة وضرائب مرهقة. المفارقة هنا ليست مجرد تفصيل عابر، بل تطرح سؤالًا جادًا: لماذا يُجرَّم الخيار الأقل ضررًا بينما يُغض الطرف عن القاتل المعروف؟
السجائر الإلكترونية، التي وصفتها أبحاث رفيعة المستوى بأنها أقل ضررًا بنسبة تفوق 95% مقارنةً بالتدخين التقليدي، تُعامَل كخطر داهم. أما السجائر، المسؤولة عن ملايين الوفيات، فتبقى حرة طليقة، ما دامت تدرّ دخلًا ضريبيًا مجزيًا للدول.
سياسة “المنع أولًا، الفهم لاحقًا”: عندما يُستبعد العلم من المعادلة
النهج المتبع عالميًا حيال الفيب يبدو وكأنه ينبع من نزعة للتقييد لا من حرص صحي. الحكومات تندفع إلى سن القوانين دون انتظار نتائج الدراسات أو تقييم الأدلة. منظمة كوكرين، المرجع الأهم في مراجعة البحوث الطبية، أشارت بوضوح إلى أن الفيب أداة فعالة للإقلاع عن التدخين مقارنة بوسائل أخرى.
بل إن دراسات جامعة كينغز كوليدج لندن ومجلة لانسيت المرموقة، أجمعت على أن التحول من التدخين إلى الفيب يقلل بشكل كبير من التعرض للسموم المسرطنة. رغم ذلك، تستمر بعض السياسات في التعامل مع النيكوتين وكأنه الخطر الأكبر، متناسية أن الضرر الحقيقي يكمن في الاحتراق، لا في النيكوتين نفسه.
الفيب لا يحرق، بل يُبخر، وهذا الفرق الجوهري هو أساس ما يعرف باستراتيجية “تقليل الأضرار”. لكن الخلط بين النيكوتين والسرطان لا يزال رائجًا، في تجاهل تام للفروقات العلمية الدقيقة.
الضرائب، أو كيف يُموَّل الضرر؟
إذا كنا بصدد التساؤل عن سبب هذا التناقض العجيب، فربما علينا النظر في الجوانب المالية. السجائر تُعتبر مصدر دخل ضريبي ضخم. ومن الصعب تجاهل أن كل شخص يقلع عن التدخين يُمثّل خسارة مالية لخزينة الدولة.
السياسيون، وإن تحدثوا عن الصحة، يعلمون أن مكافحة التدخين بجدية تعني فقدان مورد مالي لا يستهان به. هنا، يصبح من الأسهل فرض ضرائب مشددة على الفيب، بدلًا من التخلي عن مليارات التبغ. والنتيجة؟ إحباط المدخنين الراغبين بالإقلاع، ودفعهم للعودة إلى السجائر الأرخص أو اللجوء لسوق سوداء تنعدم فيها الرقابة والجودة.
النكهات في مرمى النيران، والسياسة في قلب المعركة
قضية الفيب تجاوزت إطار الصحة، ودخلت دهاليز السياسة والمال. تحت شعار حماية المراهقين، تتحرك جماعات ضغط بقوة لمنع النكهات. لكن هؤلاء يتجاهلون حقيقة معروفة: التنوع في النكهات هو ما يُساعد المدخنين البالغين على كسر ارتباطهم بنكهات التبغ، ويُسهّل عليهم الإقلاع.
الحرص على الشباب لا يعني المنع الشامل، بل يستدعي تنظيمًا ذكيًا: تحديد أعمار الشراء، مراقبة نقاط البيع، وحظر التسويق الموجه للقُصّر، تمامًا كما نُطبّق في الكحول أو الأدوية.
بالمقابل، تُركّز السياسات الحالية على مطاردة النكهات ورفع الأسعار، بينما تُهمل الأهم: ضمان جودة المنتجات، وتشجيع الابتكار الآمن، وتحسين التوعية.
الإعلام.. حين يصبح جزءًا من المشكلة
الغطاء الإعلامي لهذه المسألة لا يقل خطورة. فبدلًا من تقديم صورة متوازنة تستند إلى البحث العلمي، تميل التغطيات إلى التهويل والتخويف. تُضخَّم المخاوف النظرية حول الفيب، بينما تُهمَّش الحقائق الصلبة المتعلقة بالتدخين.
ما نحتاجه ليس إعلامًا يصرخ، بل إعلامًا يُفكّر. يُميز بين الاحتراق والبخار، بين التبغ والإقلاع، ويُعطي الجمهور ما يستحقه من معرفة دقيقة.
نهاية غير مثالية، ولكن واقعية
لا أحد يدّعي أن الفيب مثالي أو خالٍ من المخاطر. لكنه دون شك، أقل شرًا من السيجارة. والتشبث بسياسات تحاصر البدائل الأكثر أمانًا، بحجة الكمال، لن يقود إلا لمزيد من المرض والوفاة.
المطلوب ليس معجزة، بل عقلانية. نحتاج إلى سياسة تزن الأدلة، تضع صحة الفرد فوق إيرادات الضرائب، وتفصل بين حماية القاصرين وتمكين البالغين. الفيب قد لا يُرضي الجميع، لكنه بلا شك يُنقذ البعض. وهذا بحد ذاته سببٌ كافٍ لمراجعته بمنظار مختلف.
