ابوظبي - ياسر ابراهيم - الخميس 23 أكتوبر 2025 10:42 صباحاً - تعيش فرنسا فترة اضطراب سياسي ممتدة منذ يوليو 2024، عندما دعا الرئيس الفرنسي ماكرون إلى انتخابات برلمانية مبكرة سعياً لتحقيق أغلبية مريحة، لكن الانتخابات أسفرت عن برلمان منقسم إلى تيارات متعارضة أيديولوجياً، متباعدة بشدة فيما بينها، ما أدى إلى توالي انهيار الحكومات طوال تلك الفترة.
كانت الخلافات بشأن الأجندة الاقتصادية وإجراءات خفض عجز الميزانية سبباً رئيسياً في الخلافات التي أطاحت بتلك الحكومات.
وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية قال ميلتون إيزراتي كبير المحللين الاقتصاديين في شركة فيستيد الأمريكية للإعلام: إن أجندة الرئيس ماكرون الإصلاحية فقدت زخمها، لتجد فرنسا نفسها في مواجهة نموذج اقتصادي غير مستدام.
ويبدو أن حكومة الرئيس ماكرون باتت عاجزة حتى عن مناقشة الوضع الاقتصادي، ناهيك عن اتخاذ أي إجراء حياله، حتى أصبح من الصعب تذكر أن فرنسا كانت، حتى فترة ليست بعيدة، تتخذ خطوات لتخفيف مشكلاتها الاقتصادية والمالية. والآن جعلت الصعوبات الحالية التي تواجه ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو النظرة المستقبلية له قاتمة.
وعندما تولى ماكرون رئاسة فرنسا لأول مرة عام 2017، حمل معه أجندة إصلاح اقتصادي ومالي ضرورية. وشملت خطواته الأولى تغييرات جذرية في قانوني العمل والضرائب. ووعد بأنه بمجرد أن تسمح هذه الإصلاحات باقتصاد أكثر عافية، سيتخذ خطوات إضافية لترتيب الوضع المالي للبلاد، وبالتالي وضع الاقتصاد السياسي على مسار أكثر متانة. وفي ذلك الوقت، بدا وكأنه يمتلك تفويضاً لتحقيق هذه الأهداف، بحسب إيزراتي مؤلف كتاب «ثلاثون غد: العقود الثلاثة التالية من العولمة والديموجرافيا وكيف سنعيش والاستثمار محدود».
وفور توليه منصبه، نفذ ماكرون إصلاحات تاريخية عدة. ولتشجيع الابتكار والاستثمار، وبالتالي إنعاش الاقتصاد، استبدلت حكومته قانوناً ضريبياً مرهقاً ومعقداً لتحل محله ضريبة ثابتة بنسبة 30% على دخل الاستثمار. وألغى الضريبة الفرنسية الخاصة على الثروات غير العقارية. وعلى صعيد سوق العمل، منحت القوانين الجديدة الشركات الصغيرة والمتوسطة مرونة أكبر في توظيف وتسريح العمال، كما سمحت لها بالتفاوض مع القيادات النقابية المحلية بدلاً من القيادات العمالية الوطنية.
ولأنه كان في ظل القانون السابق من شبه المستحيل على الشركات فصل موظفيها، حتى لو كان ذلك لسبب وجيه، فقد تردد أصحاب العمل الفرنسيون لفترة طويلة في توظيف أشخاص بدوام كامل. وبدلاً من المخاطرة باستمرار موظفين غير مرغوب فيهم على كشوف المرتبات، تجاهل مديرو الشركات فرص التوسع أو اعتمدوا بشكل متزايد على عقود عمل قصيرة الأجل لتلبية احتياجاتهم من العمالة، وهي ممارسة أعاقت تدريب العمال، وبالتالي أعاقت تحسين الإنتاجية.
على الرغم من الاحتجاجات الجماهيرية من اليسار والنقابات وقيادات العمال، تم تمرير هذه الإصلاحات، ويبدو أنها أفادت الاقتصاد الفرنسي. وارتفع معدل النمو الاقتصادي في فرنسا من 0.8% عام 2016 إلى 2% من إجمالي الناتج المحلي عام 2019، عقب تطبيق هذه الإصلاحات.
كما تحسن سوق العمل في فرنسا.
وانخفض معدل البطالة الإجمالي في فرنسا من 10% في عام 2016 إلى حوالي 7.2% قبل أن تعطل جائحة فيروس كورونا المستجد التي تفشت في العالم عام 2020 عجلة الاقتصاد. وانخفض معدل بطالة الشباب من أعلى مستوى له عند 25% قبل دخول الإصلاحات حيز التنفيذ إلى حوالي 20% في عام 2019. وتسارع نمو إنتاجية العمل من متوسط 0.6% سنوياً خلال السنوات الخمس التي سبقت الإصلاحات إلى 0.8% سنوياً في السنوات الثلاث التي تلتها. ولا تعتبر هذه الأرقام كبيرة بالنسبة لبعض الاقتصادات، لكنها كانت ذات مغزى كبير في السياق الفرنسي.
وأوضح ماكرون في ذلك الوقت أن هذه الجولة من الإصلاحات ليست سوى البداية. وإذا أرادت فرنسا الاستمرار في دعم دولة الرفاهية السخية، فستحتاج إلى المزيد من التغييرات الداعمة للنمو، بالإضافة إلى الإصلاحات المالية، للسيطرة على الإنفاق الحكومي. ومن دون هذه التغييرات، يصبح النموذج السياسي والاقتصادي في فرنسا غير مستدام.
في الوقت نفسه تغير المشهد السياسي في فرنسا ولم تعد قادرة على إحداث إصلاحات أو حتى التحرك على الإطلاق. ولم يعد تفويض ماكرون السابق بتلك القوة التي كان عليها في السابق. كما فقد كل نفوذه في البرلمان تقريباً في الجمعية الوطنية. فمن جهة، يتمتع اليسار الذي عارض إصلاحات ماكرون منذ البداية بنفوذ في الجمعية الوطنية، ومن جهة أخرى، يبدو أن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان، يفضل تعزيز تمرده القوي من خلال مواقف معادية للاتحاد الأوروبي والمهاجرين بدلاً من التفكير في إصلاحات اقتصادية أو مالية.
وخلال عامين فقط توالى على حكم فرنسا 5 حكومات، لتفقد أجندة ماكرون زخمها. كما اضطر إلى تأجيل إصلاح متواضع كان من شأنه أن يخفض الإنفاق الحكومي الفرنسي بشكل طفيف من خلال رفع سن التقاعد تدريجياً من 62 إلى 64 عاماً، وهو لا يزال أقل من المتوسط الأوروبي البالغ 65 عاماً.
وبالنظر إلى تركيبة الجمعية الوطنية، من المشكوك فيه للغاية أن تتمكن فرنسا من فعل أي شيء لمعالجة نقاط الضعف المالية أو الاقتصادية في البلاد في أي وقت قريب، خصوصاً وأن الالتزامات الجديدة بشأن الإنفاق الدفاعي لن تؤدي إلا إلى تفاقم الضغوط المالية والاقتصادية القائمة. يشير ذلك إلى أن الأمور ستزداد سوءاً في فرنسا قبل أن تتحسن.