ابوظبي - ياسر ابراهيم - الاثنين 27 أكتوبر 2025 09:06 مساءً - مع ما يشهده عصرنا الحالي من تصاعد للتوترات الجيوسياسية واحتدام لحرب الرسوم التجارية، يقفز سؤال قديم إلى الواجهة، مفاده؛ هل بدأت هيمنة الدولار الأمريكي على اقتصاد العالم في التراجع؟ أم أن الحديث عن «نزع الدولرة» لا يزال مبالغاً فيه، كما تشير معظم المؤشرات الاقتصادية الحديثة؟
منذ اتفاق بريتون وودز عام 1944، تحوّل الدولار إلى عمود فقري للنظام المالي العالمي، ومع انتقال مركز الثقل المالي من لندن إلى نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية، اكتسبت العملة الأميركية مكانةً جعلتها تُستخدم في تسعير أكثر من نصف تجارة العالم وتسوية نحو 90% من تعاملات أسواق الصرف الأجنبي، بحسب مسح بنك التسويات الدولية لعام 2025 الذي أظهر أن الدولار لا يزال طرفاً في 89.2% من جميع الصفقات اليومية، أي ما يعادل 9.6 تريليونات دولار في التداولات اليومية.
لكن على الرغم من هذه الهيمنة الرقمية، تتزايد الأصوات التي تدعو إلى «نزع الدولرة»، والتي تعني تقليص الاعتماد على الدولار في الاحتياطيات والتجارة الدولية. فدول مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل تعمل منذ سنوات على بناء منظومات دفع وتسوية بديلة، في حين أعلنت دول آسيان خلال خطتها الاقتصادية للفترة 2026–2030 عزمها على تعزيز التسويات بالعملات المحلية وتطوير الربط الإقليمي في أنظمة المدفوعات لتقليل تقلبات سعر الصرف.
انهيار مستبعد
البيانات الحديثة لا تدعم سيناريو الانحدار الحاد للعملة الأمريكية؛ فوفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي الصادر في يونيو 2024 بعنوان «هيمنة الدولار في نظام الاحتياطي الدولي: تحديث»، بلغت حصة الدولار من الاحتياطات المعلنة عالمياً نحو 58%، ورغم أنه شهد انخفاضاً تدريجياً من أكثر من 70% في مطلع الألفية، لكن ذلك التراجع لا يعد تراجعاً بنيوياً حاداً.
ويلفت «المعهد الأطلسي» في تحليله الاقتصادي لعام 2024 إلى أن انخفاض حصة الدولار لم يصحبه ارتفاع مماثل لأي عملة أخرى، بل تشتت الحصة بين اليورو واليوان والدولار الكندي والأسترالي والذهب، ما يعني أن «التنويع» هو السمة الغالبة، لا الانسحاب الجماعي من العملة الأميركية.
وفي دراسة أكاديمية محكَّمة نُشرت في دورية «إكونوميك ليترز» في 2024 تحت عنوان «نزع الدولرة.. ليس بهذه السرعة» قدّم الباحثان فيليكس غيردينغ وجوناثان هارتلي أدلة على أن هيمنة الدولار في احتياطيات البنوك المركزية، وفي حجم تداول الصرف، وفي الديون العالمية المقومة بالدولار، بقيت مستقرة حتى أواخر 2023، رغم العقوبات الأميركية على روسيا واتساع موجة «التحوّط بالذهب» في الأسواق الناشئة.
دوافع فكّ الارتباط
الحديث عن «نزع الدولرة» ليس مجرد تمرين نقدي؛ بل رد فعل سياسي أيضاً؛ فالدول المتضررة من استخدام واشنطن للدولار «كسلاح» في العقوبات والتجارة، بدأت تبحث عن منافذ بديلة لتسوية معاملاتها.
وكما يشير تقرير مجلس العلاقات الخارجية، فإن «القدرة الأميركية على تجميد أصول واحتياطات خصومها بالدولار جعلت العديد من الاقتصادات الناشئة تعيد التفكير في تموضعها المالي العالمي».
أما في آسيا، فيلاحظ بنك أوف أميركا وباركليز أن التوجّه نحو تقليص التعامل بالدولار ازداد منذ عام 2023، مع تبني المصارف المركزية في سنغافورة وماليزيا وتايلاند سياسات لتسوية بعض المبادلات بالعملات المحلية. وفي هذا السياق، يرى موتيل كوتيشا، كبير استراتيجيي الأسواق في باركليز، أن «التحوّط من تقلبات الدولار أصبح اتجاهاً هيكلياً في محافظ المستثمرين والمؤسسات المالية في آسيا».
خطى محسوبة
من جهة أخرى، يتوسع استخدام اليوان الصيني ببطء ولكن بثبات؛ حيث تظهر بيانات شبكة "سويفت" أن حصة اليوان من المدفوعات العالمية ارتفعت من نحو 2.3% عام 2022 إلى 3.17% في سبتمبر 2025، ما يجعله سادس أكثر العملات استخداماً عالمياً.
وقد عزّزت الصين مكانة عملتها من خلال تسويات الغاز الطبيعي المُسال باليوان بين شركات «سي نوك» و«توتال إنرجي» و«إنجي» الفرنسية عام 2023، إضافةً إلى تشجيع الشراكات مع دول الخليج لتسعير بعض العقود النفطية باليوان.
غير أن تقارير لـ«ستاندرد آند بوروز» تؤكد أن ما يُعرف بالـ«بترو-يوان» لا يزال بعيداً عن منافسة «البترو-دولار» بسبب محدودية السيولة والقيود على حركة رأس المال في الصين.
عوائق بنيوية
حتى مع تنامي الحديث عن «تعددية العملة»، تبقى العوائق البنيوية واضحة؛ وتتمثل في غياب بديل متكامل يجمع بين عمق السوق، وسيادة القانون، والانفتاح المالي. إضافة إلى أن الاقتصاد الأميركي مازال الأكبر والأكثر جذباً لرؤوس الأموال بفضل سوق سندات الخزانة التي تُعد الأكثر سيولة في العالم، وهو ما يجعل الدولار الأداة الطبيعية للاحتياط والتحوّط.
ناهيك عن قيود رأس المال الصينية التي تجعل اليوان غير قابل للتحويل الحر، ما يحدّ من قدرته على أن يصبح عملة احتياط عالمية، كما يوضح تقرير "جي بي مورغان" (2024) حول الديناميكيات طويلة الأمد للطلب على الدولار.
لكن، ماذا لو تراجع الدولار فعلاً؟
في حال تحوّل التراجع النسبي إلى بنيوي، ستكون الآثار متداخلة، ومن أبرزها: ارتفاع تكاليف الاقتراض الأميركية مع تراجع الطلب على سندات الخزانة. وتراجع تأثير السياسة النقدية الأميركية خارجياً، خصوصاً في الاقتصادات المرتبطة بالدولار. وتحول موازين القوة المالية، إذ قد تستفيد عملات مثل اليورو واليوان من زيادة الطلب عليها في التسويات الإقليمية.
لكن من وجهة نظر الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي، فإن أي تحول هيكلي يحتاج إلى «ثقة مؤسساتية» تتجاوز التقنيات المالية إلى بنية الحوكمة، وهو ما لا يتوافر بعد لأي عملة منافسة.
تنويع لا قطيعة
لا يبدو «نزع الدولرة» ثورة مالية بقدر ما هي عملية تنويع بطيئة يقودها الخوف من التعرض للمخاطر السياسية والاقتصادية الأميركية، دون أن توجد حتى الآن منظومة نقدية بديلة جاهزة لتحل محل الدولار.
فالاحتياطيات العالمية تتوزع اليوم بين الدولار بنسبة تقارب 58%، واليورو بنحو 20%، والين واليوان معاً بأقل من 8%، فيما تتجه بعض الدول لزيادة حيازتها من الذهب كملاذٍ استراتيجي.
في النهاية تبدو الخلاصة التي توصل إليها صندوق النقد الدولي هي الأقرب، حيث قال في تقرير نشر هذا العام: «نحن لا نشهد نهاية الدولار، بل بداية نظام أكثر تنوعاً في الأصول والاحتياطيات، يبقى فيه الدولار المرجعية الأساسية التي تُقاس بها باقي العملات»، إلى حين.
