ابوظبي - ياسر ابراهيم - الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 05:06 مساءً - في تجلٍ جديد لالتزام المنظومة القضائية في دولة الإمارات العربية المتحدة بترسيخ سيادة حكم القانون وضمان التطبيق الأمثل للمبادئ الدستورية والقوانين النافذة، أصدرت الهيئة العامة لمحكمة تمييز دبي مبدأ قضائياً تاريخياً سيدخل التاريخ كونه أحد الركائز الأساسية لاستقلالية وحصانة التحكيم الرياضي في الدولة. هذا القرار، الذي صدر بتاريخ 05-11-2025، يقضي بنهائية الأحكام الصادرة عن مركز الإمارات للتحكيم الرياضي، واعتبارها سنداً تنفيذياً مشمولاً بالنفاذ المعجل، ولا يجوز الطعن فيها بدعوى البطلان أمام القضاء العادي ابتداءً.
يمثل هذا المبدأ تتويجاً لملحمة قانونية فريدة، بدأت فصولها من نزاع رياضي بسيط بين أروقة الإسطبلات، لتتحول إلى قضية محورية كان لها القدرة على إعادة تشكيل ملامح العلاقة بين القضاء العام وهيئات التحكيم الرياضي المتخصصة. إنها قصة تروي تدافع السلطة القضائية نحو ترسيخ التطبيق الأمثل للقانون، وتجسد عمق عملية «العصف الذهني» و«تلاقح الأفكار» التي تمارسها أعلى الهيئات القضائية في الدولة للوصول إلى زناد الحق والصواب دوماً. مكتب المحامية منى خليفة الشامسي للمحاماة والاستشارات القانونية يروي قصة النزاع التاريخي وما تمخض عنه في اسياق التالي:
بدأت فصول هذه القضية من نزاع تحكيمي مثير باشره مكتب المحامية منى خليفة الشامسي، بصفتها وكيلة عن مدرب الخيل (ط.ع)، أمام مركز الإمارات للتحكيم الرياضي. النزاع، الذي كان مع مالك إسطبل، انتهى بصدور حكم تحكيمي لصالح المدرب.
لكن القصة لم تنتهِ هنا، فقد لجأ المحكوم ضده إلى محكمة استئناف دبي، مقيماً دعوى بطلان للحكم، في سابقة أثارت تساؤلات قانونية عميقة، قبلت محكمة الاستئناف اختصاصها بنظر الدعوى، قبل أن ترفضها موضوعاً. هنا تدخلت محكمة التمييز لتنقض حكم الاستئناف وتعيد الدعوى للنظر في دفع يتعلق بعدم وجود شرط التحكيم. انتهى الأمر بمحكمة الاستئناف إلى إلغاء الحكم التحكيمي الصادر لصالح المدرب.
كان هذا الإلغاء هو نقطة التحول. آمن المدرب (ط.ع) والمحامية منى الشامسي وفريقها القانوني بسلامة موقفهم، وتمسكوا بالدراءة القانونية التي تقضي بعدم اختصاص محاكم دبي بنظر دعوى البطلان على قرارات المركز ابتداءً، إلا أن محكمة التمييز كانت قد رأت صحة قضاء محكمة الاستئناف وقضت برفض الطعن، بيد أن الإيمان الراسخ لدى مكتب المحامية الشامسي بصحة رؤيتهم القانونية، المدعومة بجهد قانوني كبير في بيان اختصاص المركز الحصري بنظر المنازعات الرياضية، دفعهم للتفكير في المسار الاستثنائي.
«الإيمان الراسخ بعدالة القضاء الإماراتي وثقتهم بقدرته على تصويب مساره متى تبين وجه الحق، كانا الدافع وراء تمسكهم بمبدأ استقلال النشاط الرياضي عن الولاية العامة للمحاكم».
في خطوة لم تكن متوقعة، ولكنها تحسب لحيادية القضاء وسمو رسالته، وقبيل إيداع طلب الرجوع وفق المادة (190) من قانون الإجراءات المدنية، قررت محكمة التمييز ومن تلقاء نفسها الرجوع عن الحكمين الصادرين منها قبلاً، استناداً إلى الصلاحيات الممنوحة لها قانوناً. أحالت المحكمة الطعن برمته إلى الهيئة العامة لمحكمة تمييز دبي للنظر فيه، في إشارة واضحة إلى إدراكها لخطورة المبدأ القانوني المطروح والآثار المترتبة على استقراره.
تحصين كامل للتحكيم الرياضي
توجت هذه المعركة القانونية الشريفة بصدور المبدأ القضائي الجديد بتاريخ 05-11-2025. إن جوهر هذا القرار، الصادر عن أعلى هيئة قضائية في إمارة دبي، هو الانتصار لمبدأ استقلالية النشاط الرياضي ولخصوصية التحكيم الرياضي الإجباري الذي يمثله مركز الإمارات للتحكيم الرياضي.
يتسق حكم الهيئة العامة مع الطبيعة الخاصة للمنظومة الرياضية في دولة الإمارات، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بـ«الحركة الأولمبية الدولية» من خلال اللجنة الأولمبية الوطنية لدولة الإمارات العربية المتحدة، هذا الارتباط يفرض الالتزام بالميثاق الأولمبي وما يتضمنه من ضرورة ضمان استقلالية النزاعات الرياضية.
الركائز القانونية للمبدأ الجديد
قانون إنشاء مركز الإمارات للتحكيم الرياضي
اعتمد القرار على القانون الاتحادي رقم (16) بشأن إنشاء المركز، الذي أفرد للمركز ولاية كاملة كـ«محكمة مختصة» بنظر المنازعات الرياضية كافة وفق المادة (5) منه.
تجاوز قانون التحكيم العام
يمثل الحكم قطيعة مع الاجتهاد السابق الذي كان يطبق قانون التحكيم الاتحادي (رقم 6 لسنة 2018) على أحكام المركز، ويجيز بالتالي دعوى البطلان أمام القضاء. المبدأ الجديد يعتبر أحكام المركز نهائية وغير قابلة للطعن بالبطلان أمام القضاء العادي، ما يضع التحكيم الرياضي في إطار قانوني خاص ومستقل.
أصداء دولية وتأثير على المنظومة الرياضية
هذا المبدأ الجديد ليس مجرد قرار قضائي محلي، بل هو آلية قياس على استقلالية المنظومة الرياضية الإماراتية وتطورها، سيكون له صدى واسع وتأثير عميق على النواحي التالية:
تعزيز استقلالية الرياضة
يرسخ الحكم استقلالية المنظومة الرياضية الوطنية عن الولاية العامة للقضاء، بما يتماشى مع متطلبات الميثاق الأولمبي الدولي ومحكمة التحكيم الرياضي (CAS) في لوزان.
ثقة المجتمع الرياضي الدولي
يعزز الحكم ثقة المجتمع الرياضي الدولي، بما في ذلك الاتحادات الدولية واللجنة الأولمبية الدولية، في نزاهة وفاعلية وسرعة حسم المنازعات الرياضية في الإمارات، ما يدعم مكانة الدولة مركزاً لاستضافة الفعاليات الرياضية الكبرى.
تطور التحكيم
يؤكد هذا الحكم نضج وتطور «التحكيم الرياضي» كونه فرعاً متخصصاً ومستقلاً من فروع التحكيم العام في الدولة.
توحيد المبدأ القضائي
يسهم المبدأ في حسم التعارض الذي كان قائماً بين اجتهادات محاكم دبي السابقة، التي كانت تقبل اختصاصها بنظر دعاوى البطلان، وبين أحكام المحكمة الاتحادية العليا في أبوظبي التي كانت تؤكد خصوصية المنازعات الرياضية واختصاص المركز دون غيره.
المحامية منى خليفة الشامسي
جسدت المحامية منى خليفة الشامسي، المتخصصة في القوانين الرياضية والحاصلة على دراسات عليا من الجامعات السويسرية في القانون الرياضي، نموذجاً مشرفاً للمحامي المؤمن برسالته. لقد خاضت وفريقها معركة قانونية راقية، لم تكن غايتها الانتصار للخصومة، بل الانتصار لصحيح القانون والمبدأ الذي يحفظ للأنشطة الرياضية خصوصيتها ويضمن نفاذ قراراتها بفاعلية.
إن إصرار مكتب الشامسي على اللجوء للطريق الاستثنائي، وثقتهم بقدرة القضاء على تصويب مساره، كانا العامل الحاسم في دفع الهيئة العامة لمحكمة التمييز - عبر قرارها الذاتي بالرجوع - إلى وضع هذا المبدأ التاريخي الذي يعد نقطة تحول مفصلية.
يمثل قرار الهيئة العامة لمحكمة تمييز دبي في 05-11-2025 انتصاراً لروح القانون وتطوراً نوعياً في بنية التحكيم الرياضي بدولة الإمارات، مؤكداً التزام الدولة بالمعايير الدولية ومتطلبات الحركة الأولمبية، ومكرساً مكانتها الرائدة في المنظومة القانونية والرياضية إقليمياً.
