ابوظبي - ياسر ابراهيم - الثلاثاء 2 ديسمبر 2025 12:21 صباحاً - في رؤية فريدة ونهج استثنائي، أعادت دولة الإمارات صياغة مفهوم الصحة من خدمة أساسية إلى مشروع وطني شامل محوره الإنسان، لتتحول خلال عقود قليلة من مراكز محدودة وإمكانات بسيطة إلى منظومة صحية متقدمة، تتطلع بثقة لأن تكون ضمن أفضل 15 نظاماً صحياً في العالم بحلول عام 2031، وتغرس في الوقت نفسه ثقافة الوقاية وجودة الحياة بوصفهما جزءاً أصيلاً من هوية المجتمع ونهجه في التنمية المستدامة.
ويعكس حجم الإنفاق على الصحة وقوة الاستثمارات المستقبلية المكانة المحورية للقطاع الصحي في مسيرة التنمية الوطنية، إذ تظهر التقديرات الصادرة عن تقرير «ألبن كابيتال» أن الإنفاق على الرعاية الصحية في الدولة مرشح للوصول إلى نحو 150.8 مليار درهم بحلول عام 2029، بمعدل نمو سنوي مركب يناهز 6.7%.
وقد وضعت دولة الإمارات صحة الإنسان ونوعية حياته كـ«بوصلة» لمسيرتها التنموية، فلم يكن المسار الصحي في الدولة مجرد بناء مستشفيات أو توفير أجهزة، بل كان رحلة تحوّل نوعي مدفوعة برؤية القيادة الرشيدة، التي أدركت أن جودة الحياة تبدأ من العافية، وخلال خمسة عقود، انتقلت الإمارات بالرعاية الصحية من بدايات متواضعة إلى منظومة مرنة وشاملة.
منذ البدايات الأولى في أربعينيات القرن الماضي، مثّل افتتاح أول مركز صحي في منطقة الرأس بدبي عام 1943، ثم مستشفى آل مكتوم عام 1951، ملامح واضحة على وعي مبكر بأهمية تأسيس بنية صحية مؤسسية رغم قلة الموارد وصعوبة الظروف آنذاك.
ومع إنشاء مستشفى الواحة في العين عام 1960 ثم المستشفى المركزي عام 1968، اتسع نطاق الخدمات العلاجية بشكل نوعي، لتتهيأ الأرضية اللازمة لانطلاقة أكثر شمولاً مع قيام دولة الاتحاد.
ومع إعلان اتحاد دولة الإمارات في الثاني من ديسمبر 1971، فتحت صفحة جديدة للقطاع الصحي الوطني، فجاء تأسيس وزارة الصحة عام 1972 ليكون الإطار المنظم لسياسات الرعاية الصحية، وإدارة المستشفيات الحكومية، وتنظيم المهن والمنشآت الطبية في مختلف الإمارات.
عملت الوزارة على توسيع شبكة المستشفيات والمراكز الصحية، وتعزيز الرعاية الأولية، وإطلاق برامج وطنية للتطعيم ومكافحة الأمراض المعدية، ما أسهم في اختفاء أو تراجع أمراض كانت شائعة، بالتوازي مع استقطاب كفاءات طبية عالمية وتدريب كوادر وطنية، وبناء منظومة تنظيمية تحكم جودة الخدمات وكفاءة التشخيص والعلاج.
في جوهر هذه النهضة يقف القائد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي وضع صحة الإنسان في قلب مشروع بناء الدولة، فدعم إنشاء المستشفيات الحديثة وتوفير العلاج للمواطنين والمقيمين على حد سواء، باعتبار أن الإنسان المعافى هو القادر على حمل مسؤوليات التنمية.
وعلى نهجه تسير القيادة الرشيدة اليوم، إذ أُدرج مستقبل الرعاية الصحية ضمن أولويات الخطط الاستراتيجية للدولة، من رؤية «نحن الإمارات 2031» والاستراتيجية الوطنية لجودة الحياة 2031، وصولًا إلى «مئوية الإمارات 2071» التي تهدف إلى أن تكون الدولة الأفضل في العالم، بما في ذلك في جودة الرعاية الصحية ومؤشراتها.
أجندة وطنية
وقد أولت الأجندة الوطنية والاستراتيجيات الصحية المتعاقبة اهتماماً خاصاً بالصحة الوقائية، من خلال العمل على الحد من أمراض السرطان، والسكري، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والأمراض المرتبطة بنمط الحياة الحديث، إلى جانب الحد من انتشار التدخين.
ورفع جاهزية النظام الصحي للتعامل مع الأوبئة والمخاطر الصحية الطارئة. وانطلقت بالتوازي تشريعات اتحادية تنظم المسؤولية الطبية وحقوق المريض، وترسخ بيئة قانونية تضمن سلامة الخدمات وتحفز التطوير المستمر في المرافق الصحية الحكومية والخاصة.
ومع تسارع التحولات الرقمية عالمياً، تبنت دولة الإمارات مشاريع طموحة في مجالات الصحة الإلكترونية والطب الرقمي والذكاء الاصطناعي، لتحدث نقلة نوعية في طريقة تقديم الخدمات الصحية، سواء عبر السجلات الطبية الموحدة، أو التطبيقات الذكية، أو المنصات الرقمية للتطبيب عن بعد، أو الأنظمة التحليلية التي تعين صانعي القرار على استشراف المخاطر الصحية مبكراً.
ونتيجة لذلك، بات المجتمع أكثر وعياً بأهمية الوقاية، والفحص المبكر، وأنماط الحياة الصحية، ما يدعم بناء منظومة صحية مستدامة قادرة على مواكبة المستقبل.
وعلى امتداد العقود الماضية، شهدت الدولة توسعاً أفقياً ورأسياً في إنشاء المستشفيات والمراكز الصحية المتخصصة والعامة، لتغطية مختلف المناطق الجغرافية، وضمان وصول الخدمة الطبية إلى كل السكان بمعايير موحدة، تواكب ذلك مع اعتماد معايير اعتماد دولية للمرافق الصحية.
حتى أصبحت الإمارات في صدارة دول العالم من حيث عدد المنشآت الصحية الحاصلة على اعتماد دولي، فضلاً على تبوّئها موقعاً متقدماً كونها وجهة إقليمية وعالمية للسياحة العلاجية، بفضل توافر مستشفيات تخصصية وبنية ضيافة متكاملة وخدمات طبية عالية الكفاءة.
كما يُتوقع أن يرتفع الطلب على أسرّة المستشفيات إلى نحو 21,767 سريراً بحلول العام نفسه، ما يعني الحاجة إلى مئات الأسرّة الإضافية خلال الفترة من 2024 إلى 2029 لتلبية الطلب المتزايد على الخدمات العلاجية والتأهيلية.
ويتكامل ذلك مع حراك استثماري واسع، إذ تشير البيانات إلى وجود أكثر من 700 مشروع رعاية صحية قيد التطوير بإجمالي استثمارات تقارب 60.9 مليار دولار، تشمل مستشفيات تخصصية جديدة، ومراكز بحثية متقدمة، ومرافق متطورة للطب الوقائي والعلاجي وإعادة التأهيل.
وتسير الحكومة بخطى متسارعة في تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص وتوسيع مسار الخصخصة المنضبطة، بما يتيح استقطاب خبرات استثمارية وإدارية عالمية، ويرسخ نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص في تطوير وتشغيل المستشفيات والخدمات الطبية.
تشريعات داعمة
وفي جانب السياسات، أسهمت لوائح التأمين الصحي الإلزامي التي تغطي إمارات الدولة، وازدهار السياحة العلاجية، وارتفاع متوسط الأعمار وزيادة نسبة كبار السن في المجتمع، في رفع الطلب على خدمات الرعاية الصحية المتقدمة وطويلة الأمد.
ومن المتوقع أن يرتفع الإنفاق الصحي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي وفقاً للتقرير من نحو 5.5% عام 2024 إلى 5.8% عام 2029، ما يعكس التزاماً حكومياً واضحاً بمواصلة الاستثمار في صحة الإنسان بوصفها استثماراً في رأس المال البشري وتنمية المجتمع.
وعلى مستوى المشاريع الريادية، شهدت السنوات الأخيرة إطلاق مبادرات اتحادية أحدثت تحولاً نوعياً في بنية القطاع الطبي، من أبرزها للذكر لا الحصر «مشروع الجينوم الإماراتي» الذي أسّس لمرحلة متقدمة في مجال الطب الدقيق، من خلال إنشاء قاعدة بيانات جينية وطنية تساعد على فهم الأمراض الوراثية وتطوير علاجات وقائية وعلاجية مخصصة للفرد.
كما عززت المبادرة الوطنية للتبرع بالأعضاء ثقافة العطاء الإنساني، وأسهمت في إنقاذ أرواح مرضى يواجهون فشلاً عضوياً، ضمن منظومة متكاملة للتبرع والزرع تُطبق أعلى المعايير الطبية والأخلاقية.
تحول رقمي
بالتوازي، توسعت الدولة في مشاريع التحول الرقمي الصحي، عبر تطوير السجلات الطبية الموحدة، وتعزيز قدرات المختبرات المرجعية الوطنية، وإنشاء مرافق تخصصية في عدد من إمارات الدولة لضمان توزيع الخدمات العلاجية وعدم تمركزها جغرافياً.
كما أطلقت مشاريع نوعية من مستشفيات ومراكز عالية التخصص مثل مستشفى حمدان بن راشد للسرطان، ومستشفى لاندمارك التخصصي في مدينة خليفة، ومدينة الشيخ شخبوط الطبية، وعدد من مراكز أمراض الجهاز الهضمي والأورام والتخصصات الدقيقة في دبي وأبوظبي، في إطار رؤية تجعل من التخصصية الطبية رافعة رئيسية لرفع جودة العلاج.
ويمضي القطاع الصحي الإماراتي بخطى متصاعدة نحو توظيف الذكاء الاصطناعي والخدمات الرقمية ركيزة أساسية في كل مشروع تطوير أو تحديث، بدءاً من نظم دعم القرار الإكلينيكي، مروراً بالتصوير الطبي والتحاليل المعمقة.
ووصولاً إلى إدارة الموارد والتنبؤ بالاحتياجات الصحية، وتعمل الجهات الصحية على رفع كفاءة الكوادر الوطنية في هذه المجالات، وتعزيز الشراكات البحثية مع الجامعات والمؤسسات العلمية العالمية .
تكامل مؤسسي
وتستمد المنظومة الصحية قوتها من التكامل المؤسسي بين الجهات الاتحادية والمحلية، حيث تعمل وزارة الصحة والجهات الصحية في كل إمارة ضمن إطار وطني موحد، يقوم على سياسات مشتركة، وتشريعات حديثة، وأنظمة رقمية مترابطة تتيح تبادل البيانات الصحية بشكل آمن وسريع. هذا التناغم ساعد على توحيد معايير الجودة، ورفع الجاهزية في مواجهة الجوائح والأزمات الصحية .
صدارة إماراتية
وتشير البيانات الرسمية إلى أن الإمارات تتصدر دول المنطقة في عدد المنشآت الصحية المعتمدة دولياً، وتندرج ضمن أبرز الوجهات العالمية للسياحة العلاجية بفضل شبكة من المستشفيات التخصصية، والفنادق الطبية .
مستقبل مشرق
انطلاقاً نحو المستقبل، تمضي الدولة وفق رؤية «نحن الإمارات 2031» نحو ترسيخ مكانتها نموذجاً عالمياً في الرعاية الصحية المتكاملة، رؤية تقوم على الوقاية أولاً، والاستدامة، والتنافسية، وجودة الحياة.
وتستهدف هذه الرؤية أن تكون الإمارات ضمن أفضل 15 نظاماً صحياً عالمياً في جودة الرعاية بحلول 2031، مستندة إلى منظومة رقمية متكاملة، واستثمارات مستمرة في البنية التحتية والكوادر والتكنولوجيا، وتوسع مدروس في الشراكات الدولية والبحثية.
كل هذه الجهود المتراكمة قادت إلى بناء منظومة صحية شاملة ومرنة، قادرة على التكيف مع التحديات الراهنة والمستقبلية، من خلال شبكة من المستشفيات والمراكز التخصصية الحديثة، وأنظمة رقمية موحدة، وقواعد بيانات صحية وطنية، وكفاءات بشرية على درجة عالية من التأهيل.
ومع استمرار التناغم بين الجهات الصحية كافة، وتعاظم دور الذكاء الاصطناعي والطب الدقيق، وتنامي الوعي المجتمعي بأهمية الوقاية، تكرّس دولة الإمارات نموذجاً متقدّماً في وضع صحة الإنسان بقلب مشاريعها التنموية، لتجعل من القطاع الصحي عنواناً للريادة وجودة الحياة في الحاضر والمستقبل.
