ابوظبي - ياسر ابراهيم - الاثنين 1 ديسمبر 2025 11:51 مساءً - منذ البدايات الأولى لتأسيس الدولة، أدرك المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أن المستقبل الحقيقي للأمم يصاغ عبر امتلاك المعرفة والعلوم المتقدمة، وفي مقدمتها علوم الفضاء، وحملت رؤيته اهتماماً مبكراً بهذا المجال، ترجم في لقاءاته مع رواد وكالة «ناسا».
وفي دعمه لتأسيس مراكز اتصالات وأقمار اصطناعية قبل عقود، وتحول الشغف لاحقاً إلى نهج وطني راسخ تبنّته القيادة الرشيدة، التي واصلت الاستثمار في بناء قدرات بشرية وتقنية متقدمة، لتصبح الإمارات اليوم نموذجاً عالمياً في صناعة الفضاء واستكشافه.
لم يكن لقاء المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، برواد مهمة «أبولو 15» عام 1974 مجرد لحظة بروتوكولية عابرة، بل شكل حدثاً مؤسساً في الوعي الوطني تجاه علوم الفضاء.
ففي ذلك اللقاء ظهرت بوضوح ملامح رؤية قائد أدرك مبكراً أن المستقبل لن يكون إلا للذين يمتلكون المعرفة، وأن استكشاف الفضاء ليس رفاهية علمية، بل بوابة للتقدم البشري.
حملت كلمات الشيخ زايد يومها قناعة راسخة بأن الفضاء سيكون من أعمدة التنمية في الإمارات، وأن بناء الإنسان القادر على التعامل مع العلوم المتقدمة هو الاستثمار الحقيقي للمستقبل، ومع مرور السنوات، أثبتت الإمارات أن تلك الرؤية لم تكن مجرد طموح، بل خارطة طريق لبناء قطاع وطني أصبح أحد أكثر القطاعات تطوراً في المنطقة والعالم.
ومع نهاية التسعينيات، بدأت خطوات عملية لترجمة هذه الرؤية إلى مشاريع ملموسة، فكانت البداية مع تأسيس «الثريا» عام 1997، الشركة التي أدخلت الإمارات عالم الاتصالات الفضائية وقدمت خدمات واسعة النطاق لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأجزاء من آسيا.
وكان تأسيس «الثريا» خطوة مهمة لأنها رسخت فكرة أن الإمارات ليست فقط مستهلكاً للتقنيات الفضائية، بل يمكنها أن تكون منتجاً ومطوراً لها، وأن تبني نواة لاقتصاد فضائي ناشئ سيدعم تطور الدولة لعقود قادمة.
مشروع طموح
ثم جاء عام 2006 ليشهد تأسيس مركز محمد بن راشد للفضاء، الذي تحول خلال سنوات قليلة إلى مركز وطني يصنع الفارق في القطاع، ويقدم مشروعاً طموحاً يقوم على بناء قدرات إماراتية خالصة في مجال تطوير الأقمار الصناعية وتحليل البيانات والإطلاق.
إضافة إلى برامج تدريب متقدمة للكوادر الوطنية، ومثل المركز نقطة التحول الأكبر في مسار الإمارات الفضائي، لأنه انتقل بالقطاع من مرحلة التشغيل إلى مرحلة التصنيع الكامل والتطوير المستدام.
بعد ذلك بعام واحد فقط، أي في 2007، أطلقت الإمارات شركة «الياه سات»، التي أصبحت خلال فترة قصيرة واحدة من أهم عشر شركات لتشغيل الأقمار الاصطناعية حول العالم.
وتقدم خدماتها للعديد من سكان الكرة الأرضية، ما يجعلها لاعباً دولياً مؤثراً في مجال الاتصالات الفضائية، ويحقق في الوقت نفسه عوائد اقتصادية ومعرفية مهمة للدولة، حيث أسهم «الياه سات» في ترسيخ البنية التحتية للاتصالات والاستشعار عن بعد، وأتاحت للإمارات امتلاك منظومة متكاملة من القدرات الفضائية المدنية والعسكرية والتجارية.
استيطان المريخ
وفي عام 2014، اكتمل الإطار المؤسسي للقطاع بإطلاق وكالة الإمارات للفضاء، التي تولت مهام التخطيط والاستراتيجية والتنظيم ووضع التشريعات.
إضافة إلى بناء شراكات محلية ودولية واسعة، وقد أسهمت الوكالة في خلق بيئة محفزة للبحث العلمي والشركات الناشئة، وفي ترسيخ مكانة الإمارات مركزاً إقليمياً لعلوم الفضاء.
وفي عام 2017، أعلنت الإمارات «البرنامج الوطني للفضاء»، الذي شكل نقلة نوعية بتضمينه خططاً طويلة المدى تشمل إعداد رواد فضاء إماراتيين، ومشاريع لاستكشاف الكواكب، وبرامج لبناء مستوطنة بشرية على المريخ بحلول 2117، كما شهد العام نفسه تأسيس «المجموعة العربية للتعاون الفضائي» التي ضمت 14 دولة بهدف تعزيز تبادل المعرفة والبيانات والتقنيات.
وجاء عام 2018 ليشكل منعطفاً تاريخياً بإطلاق «خليفة سات»، أول قمر صناعي يصنع بنسبة 100% بأيدٍ إماراتية داخل مركز محمد بن راشد للفضاء، ومثل «خليفة سات» شهادة على قدرة الدولة على بناء أنظمة فضائية معقدة دون الاعتماد على خبرات خارجية، بما يعكس مستوى التطور العلمي والتقني الذي وصلت إليه الكوادر الوطنية. وشكل هذا الإنجاز قاعدة متينة لمشاريع لاحقة أكثر تقدماً.
صناعة فضائية
وفي العام 2019، أطلقت الدولة الاستراتيجية الوطنية للفضاء 2030، التي وضعت مساراً دقيقاً لكيفية تعزيز حضور الإمارات في الصناعة الفضائية عالمياً.
وفي العام نفسه، دخلت الإمارات التاريخ بإرسال أول رائد فضاء إماراتي، هزاع المنصوري، إلى محطة الفضاء الدولية، في مهمة علمية عززت مكانة الدولة ضمن الدول الصاعدة في هذا المجال.
وفي 2020، توجت الإمارات قدراتها العلمية بإطلاق «مسبار الأمل»، أول مركبة فضائية عربية تصل إلى مدار المريخ، وقد وفر المسبار بيانات غير مسبوقة بلغت أكثر من 5 تيرابايت حتى الآن، وصدر عنه 11 إصداراً علمياً و19 ورقة بحثية، إلى جانب 270 ورقة علمية عالمية مرتبطة بالبعثة، كما قدم المسبار اكتشافات مهمة حول الغلاف الجوي للكوكب الأحمر، وحركة جزيئات الهيدروجين والأكسجين.
ورصد سحب موسمية، وتصوير قمر «ديموس» من زوايا لم تُلتقط سابقاً. ثم توسعت الإمارات في برامج إعداد المواهب، فأطلقت برنامج «نوابغ العرب»، وأعلنت أول رائدة فضاء عربية، نورا المطروشي.
كما شاركت الدولة في مشروع «سيريوس 21» لمحاكاة العزلة الفضائية لمدة 8 أشهر، وأعلنت أيضاً عن مهمة علمية ضخمة لاستكشاف كوكب الزهرة وسبعة كويكبات.
أطول مهمة
ولم يكن هذا التقدم مقتصراً على الجانب العلمي، بل شمل جانباً دبلوماسياً وتشريعياً، حيث فازت الإمارات برئاسة لجنة الأمم المتحدة للاستخدام السلمي للفضاء الخارجي «كوبوس»، التي تضم 100 دولة، كما أطلقت برنامج «سرب» للأقمار الرادارية وصندوق تمويل فضائي بقيمة 3 مليارات درهم لدعم المشاريع الجديدة.
وفي 2023، حققت الإمارات إنجازاً غير مسبوق مع انتهاء رائد الفضاء سلطان النيادي من أطول مهمة فضائية عربية، استمرت 6 أشهر وشهدت تنفيذ أكثر من 200 تجربة في الطب والزراعة والعلوم الحيوية وعلوم السوائل.
وتواصلت الإنجازات التقنية بإطلاق القمر «محمد بن زايد سات»، أحد أكثر الأقمار تطوراً في العالم لتصوير الأرض بدقة عالية جداً، كما أطلق مركز محمد بن راشد للفضاء «مجمع البيانات الفضائية» ومنصة تحليل متقدمة تعتمد الذكاء الاصطناعي لمعالجة صور الأقمار الصناعية، ما يجعل البيانات الفضائية متاحة للباحثين والمؤسسات والقمر الاصطناعي «اتحاد سات».
استكشاف قمري
ولتعزيز حضورها على سطح القمر، وقعت الإمارات اتفاقية مع «تاليس ألينيا» للمساهمة في تطوير «محطة الفضاء القمرية» عبر تصميم «وحدة معادلة الضغط» لمدة 15 عاماً، ما يضمن للإمارات دوراً دائماً في مشاريع الاستكشاف القمري وإمكانية إرسال رواد فضاء إماراتيين إلى القمر مستقبلاً.
كما تستعد الدولة لإطلاق المستكشف «راشد 2» الذي سينضم إلى مهمة «بلو غوست ميشن 2» في العام 2026، والتي تشمل حمولات من وكالة الفضاء الأوروبية، ووكالة ناسا، وأستراليا.
وستنضم الإمارات، من خلال المستكشف «راشد 2»، إلى قائمة الدول القليلة التي تخوض غمار استكشاف الجانب البعيد من القمر، ما يتيح لها جمع بيانات علمية نوعية تسهم في تطوير التقنيات المستقبلية المرتبطة بالبنية التحتية القمرية، كما تعمل الدولة إلى جانب ذلك على عدد من المشاريع الفضائية لاستكشاف كويكبات أخرى.
إنفاق حكومي وخاص
إنجازات الفضاء متواصلة ولم تقتصر على إطلاق الأقمار الاصطناعية والمهمات، حيث يكشف «المسح الوطني للفضاء» ارتفاع الإنفاق الحكومي والخاص على القطاع بنسبة 49% خلال خمس سنوات، وزيادة الاستثمارات في البحث والتطوير بأكثر من 9 مرات منذ عام 2019.
كما ارتفع عدد المواطنات العاملات في قطاع الفضاء بنسبة 51% عام 2025، وبلغ عدد الشركات العاملة أكثر من 180 شركة، وقدمت الشركات الوطنية إسهاماً اقتصاديا يزيد على 10.9 مليارات درهم، أي ما يعادل 40.7% من حجم اقتصاد الفضاء في الدولة.
كما تجاوز إجمالي استثمارات الدولة في قطاع الفضاء 40 مليار درهم، وهو رقم يعكس جدية التوجه الاستراتيجي ودوره المتزايد في الاقتصاد الوطني. ولمواصلة تحقيق الطموحات نحو الفضاء واستدامتها اعتمدت الدولة مؤخراً التوجه الاستراتيجي الجديد لقطاع الفضاء.
والذي يتضمن مستهدفات واضحة تشمل رفع القيمة المضافة لاقتصاد الفضاء بنسبة 60%، ومضاعفة حجم الاستثمارات في البنية التحتية الفضائية ومضاعفة عائدات هذا القطاع، وتعزيز مكانة الإمارات ضمن أقوى 10 اقتصادات فضاء عالمية بحلول عام 2031.
هذه المسيرة الممتدة، التي بدأت بحلم قائد منذ أكثر من نصف قرن، تحولت اليوم إلى منظومة علمية واقتصادية عالمية، تثبت أن الإمارات لم تكتف بموقع المتابع في سباق الفضاء، بل أصبحت صانعة للإنجازات، ومشاركة في صياغة مستقبل البشرية بين النجوم.
100 %
«خليفة سات» قمر إماراتي صُنع في مركز محمد بن راشد للفضاء
49 %
ارتفاع الإنفاق الحكومي والخاص على الفضاء خلال 5 سنوات
9
مرات زيادة استثمارات البحث والتطوير منذ عام 2019
51 %
ارتفاع عدد الإماراتيات في قطاع الفضاء عام 2025
10.9
مليارات درهم إسهامات قدمتها الشركات الوطنية
40
مليار درهم استثمارات الدولة في قطاع الفضاء
أخبار متعلقة :