ابوظبي - ياسر ابراهيم - الأربعاء 17 ديسمبر 2025 08:36 مساءً - بينما كانت واشنطن غارقة في صراعاتها السياسية التي أدت لشلل "الإغلاق الحكومي"، كانت سوق العمل الأمريكية تسجل أسوأ أداء لها منذ سنوات بعيداً عن الرقابة اللصيقة.
اليوم، تخرج الأرقام المتأخرة لتكشف أننا لا نواجه مجرد تباطؤ، بل "خديعة إحصائية" استُخدمت للتغطية على فقدان آلاف الوظائف ونزيف الشركات الصغيرة.
ومع وصول البطالة إلى 4.6%، يجد "جيروم باول" نفسه أمام خيارين أحلاهما مُر، إما التمسك بأسعار فائدة مرتفعة تُجهز على ما تبقى من نمو، أو الرضوخ لضغوط الأسواق بـ "خفض اضطراري" مطلع عام 2026 لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حطام "الحلم الأمريكي" المتآكل.
لم تكن بيانات التوظيف الصادرة هذا الأسبوع مجرد أرقام عابرة، بل تحولت تحت مجهر بنك "يو بي إس" إلى دليل إدانة لضعفٍ بنيوي ينهش في جسد سوق العمل الأمريكي.
هذا التراجع الجوهري، الذي كشف عنه الخبراء، لم يعد مجرد "سحابة صيف"، بل بات يُنظر إليه كقاعدة انطلاق حتمية ستجبر الاحتياطي الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة في وقت مبكر من العام المقبل.
ويرى المحللون أن الفيدرالي، الذي كان يراهن على صلابة التوظيف، قد يجد نفسه مضطراً لتقديم "تنازلات نقدية" عاجلة لترميم التصدعات التي بدأت تظهر في جدار الاقتصاد الأكبر عالمياً.
وأظهر التقرير الصادر عن مكتب إحصاءات العمل الأمريكييوم أمس، والذي تأخر بسبب الإغلاق الحكومي ، أن الوظائف غير الزراعية أضافت 64 ألف وظيفة فقط في نوفمبر، وهو رقم لم يتغير نسبياً منذ أبريل.
وفي غضون ذلك، واصل معدل البطالة صعوده المطرد في الجزء الأخير من هذا العام، حيث استقر الآن عند 4.6%..
خديعة "الدوام الجزئي"
بعيداً عن العناوين البراقة، كشفت تفاصيل البيانات عن "واقع مأزوم" يطحن طموحات القوى العاملة مع اقتراب نهاية العام؛ حيث سقط 5.5 مليون شخص في فخ "البطالة القسرية".
هؤلاء ليسوا مجرد أرقام، بل هم ضحايا نظام اقتصادي أجبرهم على قبول "أنصاف الوظائف" بزيادة مخيفة بلغت 909 آلاف شخص في شهر واحد.
ووفقاً لمكتب إحصاءات العمل، فإن هؤلاء العمال لم يختاروا مرونة الوقت، بل فُرض عليهم الدوام الجزئي فرضاً نتيجة تقليص ساعات العمل في شركاتهم، أو بسبب اصطدامهم بجدار العجز عن إيجاد وظائف كاملة تضمن لهم الحد الأدنى من الأمان المعيشي، مما ينذر بتآكل القوة الشرائية للطبقة الوسطى.
وفي سياق متصل، ارتفع معدل البطالة بين المراهقين على أساس شهري ليصل إلى 16.3%، بينما بلغ عدد العاطلين عن العمل لأقل من خمسة أسابيع 2.5 مليون شخص في نوفمبر، بزيادة قدرها 316 ألفاً عن سبتمبر.
ويشير هذا بوضوح إلى أن الوافدين الجدد إلى سوق العمل والمنتقلين بين الوظائف يواجهون صعوبة بالغة في الحصول على أدوار مستدامة.
تداعيات الإغلاق الحكومي وشكوك المحللين على الرغم من عدم نشر تقرير توظيف كامل لشهر أكتوبر، تضمنت بيانات هذا الأسبوع حقيقة أن التوظيف في الحكومة الفيدرالية انخفض بمقدار 162 ألف وظيفة في أكتوبر.
وبناءً على ذلك، قال "بول دونوفان"، من بنك "يو بي إس"، في مذكرة للعملاء: "إن البيانات رفعت عدة رايات حمراء"، مضيفاً أنه يجب التعامل مع جودة البيانات نفسها بـ "حذر شديد" ، لأن الإغلاق الحكومي فاقم مشكلة انخفاض معدلات الاستجابة لمسوح المكتب.
ومع ذلك، أضاف دونوفان: "التقريرلا يثي الكثير من المخاوف بشأن مرونة المستهلك الأمريكي؛ فالتوظيف في المطاعم مستمر في النمو، مما يشير إلى أن اتجاه الإنفاق على الترفيه مستمر. ولكن، ربما هناك مخاوف كافية بشأن صحة سوق العمل لتبرير خفض 'تأميني' للفائدة من قبل الفيدرالي العام المقبل".
طموحات المستثمرين
أما على صعيد التوقعات في أسواق المال، يبدو أن طموحات المستثمرين بخفضٍ قريب للفائدة قد اصطدمت بجدار الواقع؛ إذ تُشير بيانات "مؤشر مراقبة الفيدرالي" التابع لـ "بورصة شيكاغو التجارية إلى استبعادٍ شبه كلي لأي خفضٍ في الاجتماع المرتقب نهاية يناير2026.
ورغم الضغوط الاقتصادية، لم تتجاوز احتمالات خفض الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية (25 نقطة أساس) حاجز الـ 22% وقت كتابة هذا التقرير، مما يعكس حالة من الترقب الحذر.
وصفت "إليز أوسينبو"، رئيسة استراتيجية الاستثمار في "جي بي مورجان" (J.P. Morgan)، أرقام أكتوبر بأنها كانت "صادمة" بشكل خاص، وأيدت رؤية دونوفان قائلة: "هذا التقرير يعزز الطريقة التي نفكر بها في نهج السياسة الحالي للفيدرالي،و تقديم تخفيضات 'تأمينية' خلال الأشهر القليلة الماضية كان أمراً حكيماً وأدى لوصول الفائدة لمستوى أكثر حيادية".
وأضافت: "قد يكون من المناسب إجراء خفض إضافي واحد في الربع الأول من عام 2026، لكن الاقتصاد يبدو مستقراً بما يكفي لتوخي الصبر".
مذبحة الشركات الصغيرة
على الطرف الآخر من التوقعات، ترفض "نيلا ريتشاردسون"، كبيرة الاقتصاديين في "مؤسسة إيه دي بي" (ADP) لمعالجة بيانات الرواتب، الانخراط في موجة التفاؤل الحكومية؛ مؤكدة أنها لا ترى "صورة وردية" في بيانات القطاع الخاص الأمريكي.
فوفقاً لأحدث تقارير المؤسسة، التي تعد المرجع الأكبر لرواتب القطاع الخاص عالمياً ، انكمش التوظيف الخاص بمقدار 32 ألف وظيفة في نوفمبر، مدفوعاً بانهيار التوظيف في الشركات الصغرى.
وأوضحت ريتشاردسون أن الشركات المتناهية الصغر والتي يعمل بها أقل من 19 موظفاً شطبت وحدها 46 ألف وظيفة، بينما قلصت الشركات المتوسطة 74 ألف وظيفة أخرى.
وحذرت من أن "الشركات القزمية" تمثل عصب السوق، وتحركها الجماعي نحو تقليص العمالة يعني أننا أمام "موت بطيء" لفرص العمل المستدامة، حيث لا يتم استبدال المغادرين، مما يؤدي إلى فجوة توظيف تتسع بصمت خلف ستار الأرقام الحكومية المضللة.
