ابوظبي - ياسر ابراهيم - الاثنين 29 ديسمبر 2025 12:06 صباحاً - على مدار العقد الماضي، سعى الشرق الأوسط إلى ترسيخ موقعه مركزاً عالمياً للبنية التحتية الرقمية، فيما برزت دبي بوصفها أحد أكثر أسواق مراكز البيانات ترابطاً واتصالاً في المنطقة، وفق ما ناقشته حلقة حديثة من «بودكاست» موقع «إيكونوميك تايمز» الهندي.
ومع التسارع المتزايد في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي وتشدد متطلبات توطين البيانات عبر الأسواق المختلفة، لم تعد مراكز البيانات مجرد منشآت تقنية، بل تحولت إلى أصول استراتيجية تمس جوهر سيادة البيانات وحوكمتها. وبالنسبة للشركات الهندية التي تتوسع عالمياً، بات اختيار موقع معالجة البيانات لا يقل أهمية عن حجم السعة المتاحة.
وتوضح بريانكا ناغبال، المديرة والاستشارية لقطاع مراكز البيانات في الشرق الأوسط وأفريقيا لدى شركة «جي ال ال» JLL، أن دبي تتبنى مقاربة أكثر هيكلية واستشرافاً للمستقبل، تقوم على بناء بنية تحتية قادرة على استيعاب تدفقات البيانات العابرة للحدود، وأحمال العمل المتقدمة، وتعقيدات الأطر التنظيمية الإقليمية.
وترى ناغبال أن اقتصاد مراكز البيانات في دبي لا يتشكل اليوم من خلال أرقام الميجاواط الضخمة بقدر ما يتحدد عبر جودة التصميم، ومواءمة السياسات، وتعزيز الربط الإقليمي. وتقول في هذا السياق: «عندما يتحدث الناس عن دبي، يتخيلون مباني ضخمة مليئة بالخوادم وأنظمة التبريد، لكن الواقع مختلف؛ فالأمر أشبه بلعبة شطرنج استراتيجية، حيث يتم التخطيط بعناية لنقاط هبوط الكابلات البحرية».
وتضيف أن الموقع الجغرافي لدبي يمنحها ميزة تنافسية فريدة، إذ ترتبط مباشرة بأوروبا وأفريقيا وآسيا عبر محطات إنزال الكابلات البحرية، ما يجعلها نقطة ارتكاز طبيعية لنمو البيانات في المنطقة.
وتكتسب هذه المركزية أهمية متزايدة في ظل تصاعد الاهتمام بقضايا سيادة البيانات، حيث تشير ناغبال إلى قدرة دبي على العمل ضمن أطر تنظيمية متعددة ومتباينة مع الحفاظ على مستويات عالية من الاتصال. وتقول: «دبي محاطة بدول لديها قوانين مختلفة لسيادة البيانات، لكنها تدير هذه الاختلافات بكفاءة عالية، ما يجعلها بمثابة جسر رقمي يربط المنطقة بأكملها».
وفي موازاة ذلك، تعيد التحولات التكنولوجية، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، تعريف معايير تصميم وتشغيل مراكز البيانات. فبحسب ناغبال، انتقلت كثافات الطاقة من نطاقات تقليدية تتراوح بين 6 و18 كيلوفولت أمبير إلى مستويات غير مسبوقة تصل إلى 250 كيلوفولت أمبير وأكثر، ما يفرض تحولات جذرية في البنية التحتية.
ولا تقتصر هذه التغييرات على الخوادم، بل تمتد إلى كامل الهندسة المعمارية لمراكز البيانات، مع اعتماد حلول تبريد هجينة، ودمج أنظمة التبريد السائل، وابتكارات أخرى تهدف إلى تحقيق الكفاءة والاستدامة. وفي هذا الإطار، تؤكد ناغبال أن الحياد الكربوني يمثل تحدياً رئيسياً، ما يجعل كفاءة الطاقة عنصراً حاسماً في تصميم المرافق المستقبلية.
وتنسجم هذه التوجهات مع رؤية دبي الأوسع للتحول نحو الطاقة النظيفة، مدعومة بمبادرات كبرى مثل مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية، الذي يسهم في دعم بنية تحتية رقمية أكثر استدامة.
كما تفتح هذه التحولات آفاقاً جديدة أمام الشركات الناشئة ومزودي الحلول، لا سيما في مجالات البنية التحتية المساندة، مثل تقنيات التبريد المتقدمة والشراكات التقنية. وتشير ناغبال إلى نشاط متزايد في الاستثمارات المرتبطة بهذه القطاعات، مدفوعاً بتغير متطلبات التشغيل في بيئة مناخية خاصة مثل دبي، حيث تؤثر الحرارة والغبار وجودة الهواء بشكل مباشر على كفاءة مراكز البيانات.
وتوضح: «عندما نتحدث عن الرمال، فنحن لا نقصد الجانب الجمالي، بل طبيعة الأرض وأنظمة ترشيح الرمال وتنقية الهواء، التي تشكل جزءاً أساسياً من جاهزية مراكز البيانات في المنطقة».
إلى جانب البنية التحتية والسياسات، تعكس تجربة ناغبال تحولاً أوسع في معايير القيادة داخل قطاعات التكنولوجيا في دبي، حيث يتم تقييم الكفاءات على أساس الخبرة والقدرة بعيداً عن الاعتبارات التقليدية. وتؤكد أن البيئة المهنية في الإمارة تتسم بقدر كبير من القبول والدعم، مدعومة بمبادرات حكومية تعزز مشاركة المرأة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، إضافة إلى تزايد تمثيل النساء في مجالس الإدارات.
ومع تسارع الطلب الإقليمي على البيانات، يتبلور اقتصاد مراكز البيانات في دبي ليس من خلال السرعة أو الحجم وحدهما، بل عبر قرارات مدروسة تتعلق بالتصميم والتنظيم والموقع الجغرافي، وهي قرارات ترسم بهدوء ملامح المستقبل الرقمي للمنطقة.
